يونس مجاهد
كيف نواجه انتشار الأخبار الكاذبة؟ هل توجد أساليب ووسائل ممكنة لرصد هذه الأخبار والقضاء عليها، أو على الأقل الحد من انتشارها؟ مثل هذه الأسئلة، وغيرها مشابهة لها، مطروحة اليوم في كل المجتمعات، بسبب التطور الهائل لتكنولوجيا المعلومات، التي سيضخم من تأثيرها الذكاء الاصطناعي، الذي ما زال في بداياته، ولا يعرف إلى أين سيقود البشرية.
الجزء الأول من الأجوبة عن هذه الأسئلة يكمن في الوعي بالتحولات التي عرفها ويعرفها العالم، فتاريخ البشرية يدلنا على أن تداول المعلومات، كان حاسما في تطورها، في تأسيس الدول وقيام الحضارات، وفي خلق السرديات والأساطير التي آمن بها الناس وشكلت معتقداتهم وحددت مصائر حياتهم. وقد أصدر المفكر نوفال نوح هراري، مؤلفا ذاع صيته وصنف من أحسن الكتب سنة 2024، تحت عنوان “نيكسوس” NEXUS، جمع فيه بين التاريخ والتأملات الفلسفية، واعتبر أن تداول الأخبار كان المحرك الرئيسي لتاريخ البشر.
يستعرض المؤلف تاريخ شبكات المعلومات من العصر الحجري إلى الذكاء الاصطناعي، معتبرا أن التحكم في الأخبار يعادل القوة، حيث أنه منذ القدم كان أولئك الذين يتحكمون في المعلومات، سواء شفهية أو مكتوبة، يسيطرون و يمارسون الهيمنة، غير أن ظهور الذكاء الاصطناعي يجعل من الخوارزميات جزءا من المشاركة في هذا التحكم، لأنها مختلفة جذريا عن التكنولوجيات السابقة، إذ تعمل بشكل مستقل، لكن المتحكمين فيها لهم القدرة، كذلك على الهيمنة بشكل غير مسبوق، على الاقتصاد العالمي والتأثير الكبير في السياسات وفي الاتجاهات الثقافية.
في الجزء الأخير من كتابه، يزرع هراري بعض الأمل، عندما يقول إن مصيرنا مرتبط بالشكل الذي سوف نتعامل به مع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، حيث يمكنها أن تساعد في الشفافية وفي مواجهة الهيمنة، كما أن التفكير في مستقبلنا بشكل عقلاني وقدرتنا على استعمال المنطق النقدي، سيكون مفيدا في تقرير مصيرنا والتحكم فيه لنختار ما نعتبره الأفضل بالنسبة لنا كأفراد ومجتمع.
الأهمية التي أعطاها هراري لشبكة المعلومات وتأثيرها في تاريخ البشرية، تحدث عنها، بشكل مغاير، الفيلسوف الكندي، مارشال ماكلوهان الذي اشتهر بنظرية أن وسيلة التواصل هي الرسالة، وليس المضمون، لأن وسائل الاتصال، الشفهي والمكتوب والكهربائي والرقمي، أثرت في الحضارات وفي الحساسيات الإنسانية، لأنها تخاطب الحواس، إذ أصبحت وسيلة التواصل امتدادا لها، تجعل الإنسان خاضعا للشكل الذي يتلقى به الخطاب. كما يتحدث أيضا عن الحتمية التكنولوجية التي تغير علاقة الإنسان بمحيطه، من خلال أدوات التواصل التي تتلقاها الحواس الخمس، حسب الوسيلة المستعملة، وتفرض عليها الشكل الذي تتمثل به العالم والعلاقات بين الناس. لكن ماكلوهان، يعبر عن تفاؤله بإمكانية التغلب على هذه الحتمية، إذا تمكن الناس من الحصول على قدر أكبر من المعلومات، عن كيفية اشتغال هذه التكنولوجيا المحيطة بنا.
كل من هراري وماكلوهان، يؤكدان قدرة العقل البشري على التعامل الذكي مع التحديات التكنولوجية، بشرط أن يتوفر على المعرفة والوعي النقدي، وهي صفات لا تولد مع الإنسان، بل تكتسب بالتربية والتعليم والتجربة، وهو الأمر الذي يجعلنا نجزم بأن مواجهة الأخبار الكاذبة والإشاعات المغرضة، يمكن أن يتم، أولا، بتنمية الحس النقدي لدى الناس، الذي يتطور بالمعرفة والعلم، أي بالتربية. وثانيا، من خلال توفير آليات التصدي، وأهمها الصحافة الجيدة ووسائل الإعلام القوية بانتشارها وفعاليتها ومواردها، التي على الناس أن يثقوا فيها، كما فعلوا في أوقات الأزمات، أقربها أزمة الحجر الصحي، نتيجة جائحة كوفيد، وحتى تتكرس هذه الثقة، لابد من صيانتها وتحصينها.
أما الأكاذيب والشائعات، فقد رافقت البشرية، منذ فجرها، ولن تتوقف، لأنها جزء من الحروب الصغيرة والكبيرة، تضخمت مع تكنولوجيات التواصل الحديثة، وأصبحت صناعة تصرف عليها الدول مبالغ ضخمة، خاصة تلك التي لا تملك تاريخا، محملا بالقيم والمرجعيات الحضارية، التي قد تفتخر بها بين الأمم، كما هو الشأن بالنسبة لسلطات بعض الدول التي تعيش على أكذوبة كبرى زرعها الاستعمار للقيام بالأدوار القذرة.