محسن الأكرمين.
الحديث عن الثقافة، حديث متاعب، وأجوبة (حياحة)، لكن لا بد من تغيير مستويات التفكير والحد من تدني أخلاق أبعاد التغييرات …..مودتي لكم الغالية
كنت فيما سبق أرمز إلى الثقافة التي يمكن تطعيم المجتمع بها بالتصويبات القِيَمِيَّةِ بالثقافة النظيفة، لكني اليوم أؤكد أن هذا الطرح بات متجاوزا، ويمكن اعتباره من تنظير المثالية الفضفاض، لأن قضية الثقافة متناسقة البنيات. ففي ظل منشأ التحولات المتسرعة، بات المنتوج الثقافي والفني مغتصبا من قبل رُواد التفاهة والفن المزدوج. اليوم تحققت رؤية وبشارة من سلطة غزو الثقافة الرخوة، وبدت آلة التفكير في (الآخر) تستبد بالأفعال وحتى أنماط العيش، واحتلت ثقافة اللُّمجة السريعة عقول الناشئة، وسلوك البدانة المتفحمة باب النموذج الأمثل لمصفوفات الثقافة والفن.
هذه القضية الصحيحة نستوثق من صدقها نوعية المشكلات التي أسفرت عن موت المثقف العضوي، واندحار الثقافة الأصيلة الاجتماعية نحو فوهة المحروقات المدخنة، وخروج المثقف الوصولي الانتهازي من قمقم الريع (حلال). هي إذا خلطة لزجة عالقة، والتي أنتجت فعلا ثقافيا مشوها يستهدف رعاية التمييع، وقتل القيم الوسيطة. خلطة تكالبت عليها استلابا المنافع الذاتية والأنانية بالمفهوم الفرعوني (أنا رب ثقافتكم الأعلى… فلا تستفتوني في أمري) !!!
قد لا نقدر على توصيف جدوى الثقافة الاستراتيجي (النسق التاريخي) في المستقبل الذي يجيء، وبمحاذاة الماضي الذي ما ينفك يمضي بحاضره. ولكنا، قد نساهم قدر التمكين في نقد ثقافة المهادنة والمسالمة في نيل المكارم، والتي تتربع على عرش منح العطايا والدعم (حلال)، والتي باتت خبرتها الأولى تتفنن في كيفية إقصاء المنافسين المنتفعين، ومعرفة خلايا ملفات الدعم والموالاة !!!
نعم، لن نختلف البتة في أن الثقافة المسنونة بفرائض الطاعة والخنوع، لن تُنتج بدا غير الثقافة الرخوة (أي أدلوجية)، والاستهلاك الفضفاض للفن والكتاب، وتشويه مفهوم القيم. هذه القضية بالضبط ينبغي بها البدء، أي أية ثقافة نريد ترسيخها ثقافة التمايز الطبقي أم ثقافة المطابقة والإنصاف؟ وأي متلق نستهدف من التذويب الفج للثقافة الرخوة؟ هل الثقافة والفن المدعومين من المال العام يمكن اعتبارهما ثقافة تحررية أم ثقافة إيديولوجية مفخخة؟ كيف يمكن أن نرتقي نحو الثقافة النسقية البنائية ؟ أين يكمن الخلل هل في نوعية الثقافة والفن (المستورد) أو في أنماط الاستهلاك (الشعبوي) والتمويه بتمرير موجة الثقافة النمطية غير الناضجة؟
فحين نتحدث عن السلوك ومنظومة القيم الاجتماعية، نجد بأن الثقافة عموما لم تنتج غير أوراق خريف مبعثرة برياح موسمية جراء منغصات العولمة القاسية (الحداثة البعدية)، وكذا رهانات (الآخر) الحاضر والغائب بين الذوات المستلبة (حتى في نمط عيشها، وهيئة لباسها، واختمار تفكيرها المبنج بحفر الليل…) !!! نجد أننا بتنا قاب قوسين من ثقافة ذوي الأعراف (عمق التأخر) لا هي صحية ولا هي رخوة، ولكنها تحمل متاع الحياة، ونيل مكارم الدعم (حلال). إنها بحق ثقافة مدارك الارتباط وغباء المثاقفة المستفيدة من دعم القبة الحديدية الحمائية !!!
مشكلة الثقافة تتآخى بالرضاعة والنشأة مع مشاكل أخرى، ومن نفس فصيلة الطين المحموم، وقد تتوازى بالإضافة مع أزمة التعليم حدة، والخروج من سياسة محاربة الأمية والفرصة الثانية. مشكلة الثقافة، حين تفتتن بمسالك (شعبوية) التفاهة (التجريب الساذج)، والتي باتت سببا في دخول بوابة الإعلام و المؤتمرات الحصينة. تصطدم بحق المشكلة الثقافية في غياب الأثر النوعي للحمولة (الصدئة) الردمية، والغذاء الحار المقدم للمتلقي بطبع التطابق مع الذوق الرخو، وطمس (حكامة الدولة/ الحرية/ التاريخ/ العقل) مما ينتج لنا لازمة ( مَا بَغِيتُونَا نَقْراوْ…. مَا بَغِيتُونَا نَوْعَاوْ….بَاشْ تَبْقَاوْ فِينَا تَحَكْمُوا… !!!).
من الجهل الغبي، ألا نلتفت إلى العبارات المحرجة للمثقفين الجدد وأشباه المثقفين (المثقف الوظيفي) ورؤية الأنانية. من سوء التقدير الكمي ألا نفتش في تراكمات ثقافتنا ومنتجاتها الدانية والجافة بقلة استمطار الثقافة المدروسة، وإنشاء صيغة جديدة للتفكير في الثقافة الشعبية، ومتطلباتها الأساس. من التخوفات ذات المسؤوليات الدستورية، والقيم الاعتبارية تحصين الشباب بثقافة الثقة في الوطن والدولة والمؤسسات، لأن المساءلة اليوم بدت أشد تشاؤما، حين بات الشباب في ثقة عمياء في المواقع الإليكترونية ( الهروب الجماعي عن الوطن)، هنا المحاسبة تفتح على السواء وبالتساوي مابين السياسي والمثقف، وما بين المؤسسات الكبرى التي تديرها الدولة ( التعليم/ التشغيل/التأطير/الوعي والسلوكيات المدنية…).
قضية الثقافة عموما، هي قضية مجتمع يجب أن يكون متناسق البنيات. مجتمع ينتج التدافع السلمي لا الهروب من الوطن( الهروب الجماعي عن الوطن). مجتمع يصنع التفرد في البناء و الطموح ولا يوزع المآسي. مجتمع قادر على إنتاج التفكير والبدائل الممكنة. مجتمع يمتلك ثقافة السجال والجدال، ويرتقي نحو الانضباط للدولة والحق وعدالة القانون.