محسن الأكرمين.
مرات عديدة كان مناد العز يحصي بالتمام أنه قد انتهى من أحاجي الماضي، ووصل إلى حسم حلول الخاتمة مهما كانت. لكنه حين يقف يجد أن الماضي لم ينته منه، بل يلتصق به معلنا أنه الحاضر والمستقبل. كانت مشاهد سفينة تغرق ماء، تتكرر صورتها في برمجة ذاكرته كلما جالس طرف البحيرة بالمحاذاة من جرف منحدر التل المجانب لجبل الغابة. سفينة تغرق ثم تطفو فوق السطح مستعيدة توازنها ، وهو مقيد اليدين، ولا يستطيع حتى ملامستها.
كان مناد العز يعلم علم اليقين أن الماضي الدموي لن يموت بلا رجعة في قبيلة ألفت ممارسته حتى ذبح القرابين الدموية. كان يؤمن أن الماضي يمكن أن يرتد في أي لحظة مثل ارتداد طرف عين سليمان وعرش الملكة بلقيس حاضر بقصره. كان مناد العز يعلم أن عرش الماضي دائما ينبعث مجددا ليتسبب في صناعة أزمات الحاضر وحروبه.
تجلس بطلة القبيلة الفاتنة تالا تقابل غروب الشمس، وهي منكمشة على ذاتها من شدة رياح غربية باردة. تجلس بعد أن أعيتها السباحة في ماء بحيرة لا تتسامح مع الجروح البشرية، بل تحييها بمتم اللفظ خارجها وبدون تطهير. فاتنة قبيلة آيت أمياس أتمت غطستها السابعة من حصة التطهير والاسترخاء النفسي، وهي لا تعلم أن مناد العز يتواجد قاب قوس بالقرب منها، ويجانبها الجلوس، و مشهد الرؤية الفاضحة لذاك الجسم المتعري للسماء. كان مناد العز في حاجة إلى حب يوازي الحنان في زمن الجائحة وغلبة تفكير الجن والجنيات بالقبيلة. كانت يتابع أشد حركات تالا سكينة. فقد كانت تبالغ في الرسم على الرمال بمصداقية الطفلة المؤثرة، ثم تأتي بالمسح اليدوي على ما رسمته.
عند كل مساء كانت قبيلة آيت أمياس توظف بهارات الأبخرة مثل معامل الفحم الحجري، حتى يبيت الهواء مفعما بنكهة الجن والجنيات، وقرع الطبول الليالي. كانت الدهشة تتناوب وتصيب تالا بالارتجاج وهي تشهد مناد العز قادما نحوها، فطفقت تخصف تواري سوأتها بالاستدارة. من المفاجأة غي المتوقعة أن مناد العز كان يسير بالخلف نحوها، وقد أدار وجهه عنها حتى تستجمع ملابسها بالتمام على جسمها. رومانسية الصدفة الأولى زكت صدمة تالا حين أغفلت مراقبة العيون القريبة والمتلصصة.
في شط البحيرة يكتمل ديكور طبيعي بلا حوار ولا ماكياج بين المكان والإنسان. يجتمع الحب بمتسع مسافة الأمان. وتبدو مشاهد التشابهات تتشكل بالقرب ثم الدنو. تقترب تالا من مناد العز وهي لا تصوب عينيها نحوه، تقترب بلمسة يد بيد مبالغ قي عاطفيتها الفياضة. هنا أحس مناد العز في مخيلته أن تلك السفينة لم تعد لتغرق في مياه البحيرة ثانية. أحس أن البطلة الفاتنة باتت في قفص الحب آمنة. حينها رمى مناد العز جنونه جانبا، وتخلى عن شك الوحل، وبات يعيش لحظات من اليقين بالفرح.