بقلم: عبدالله العبادي
إن النقاش الدائر الآن حول التربية أصبح مفتوحا خصوصا في مجتمع حيث التحولات الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية وإعادة تقييم النظم الثقافية، أدت إلى تغييرات في المفاهيم حول الأطفال، التربية والتعليم. كما أن تنوع الخطاب المختزل خصوصا حول الطفل وضع مختلف الاتجاهات النظرية والإيديولوجية والثقافية للعوامل المؤثرة في دائرة النقاش، كالدولة والمدرسين والآباء.
يقول جون فوراستيي: “بلد غير متقدم يعني بلد غير متعلم” . معلنا بذلك الرباط القوي بين التعليم والتقدم الحضاري، ويضيف أن البحث في التربية هو رأس مال مصير الإنسانية، والأطفال الذين يعتبرون حاليا الساكنة التعليمية يتم تحضيرهم لأعمال المستقبل من خلال التربية إلا أن أهميتها الاقتصادية تظهر للبعض الآن كميدان غير مربح، وتقدم التعليم لا يتوقف فقط على العوامل الديمغرافية، بل أيضا الظروف الإقتصادية، الإجتماعية والثقافية.
المهتمون بقضايا الناشئة يتحدثون دائما عن أوضاع اقتصادية للأسرة بالأساس بغض النظر عن دور المدرسة وكذا إفرازات الأزمة التي تنتج حين تتوقف المدرسة عن أداء دورها المنوط إليها.
ولفهم واقع الناشئة يجب البحث في طبيعة المجال الإجتماعي والسيكولوجي المكون من طرف المدرسة وقياس مدى تأثير هدا المجال على التلاميذ في كل مراحل تكوينهم : التحصيل المعرفي، تحسين السلوك أو تحضيرهم قيميا، وتقوم أيضا بدراسة منظمة للعوامل المؤثرة خارجيا على المدرسة نفسها، آخدة منابعها سواء من خلال متطلبات مختلف المهن أو المتطلبات الحالية للمجتمع . كما أن هذه التربية المأمولة والتي تهدف إلى تعليم الطفل كيفية العيش والحياة والاندماج في المجتمع أكثر من تعليمه كيفية العمل الملقن داخل المدرسة ، تظهر الآن، غير قادرة على أداء هذا الدور المنوط بها، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المضمون الثقافي والاجتماعي الذي من خلاله يمكن أن يكون البناء فعالا، وكل بحث علمي يجب أن يحدد موضوعه بدقة، رغم أن الخطاب العلمي المعاصر لم يعد أكثر صرامة حين يتعلق الأمر بالقطيعة الإبستمولوجية بين الفعل والمعرفة، وسوسيولوجيا التربية تتضمن مستويين : الأول : تحلل وظيفة المدرسة في اطار المجتمع والعلاقات التي توجد بين المدرسة والمجتمع. الثاني : تحلل المؤسسة التعليمية بصفتها مجتمعا مصغرا، وتحاول إيجاد روابط العلاقات بين هذا المجتمع المصغر والمجتمع الكلي انطلاقا من مشاكل مجسدة في المؤسسة المدرسية.
يرى العربي أبا عقيل من خلال أبحاثه حول الطبع الإيديولوجي في المدرسة أو حول الحراك الاجتماعي والطبقات بالمغرب، أن المدرسة لم تعد ذلك المكان الذي من خلاله يمكن تغيير المواقع الاجتماعية. ويتحدث عن المستقبل الغير السار للعملية التربوية حين يتحدث عن تصفية التلاميذ بواسطة التعليم الخصوصي، وتهميش المدرسة العمومية وبذلك يتم تقوية سياسة الإقصاء، والضحية أبناء الطبقات الهشة وأطفال العالم القروي ويضيف أن تشجيع هذا النمط من التعليم هو بمثابة تهميش ومس بالحق في التربية والحق في الثقافة. كما أن حالة أغلبية تلاميذ مجتمعنا الحالي تبقى أكثر نقدية، حالة تترجم أزمة داخل المجتمع، أزمة البنيات والمؤسسات، وأزمة البنيات العقلية والإيديولوجيات، حالة تسمح بظهور نسق اجتماعي غير متجانس.
على السوسيولوجي دراسة مقارنة ووراثية للواقعة الاجتماعية كما يرى كاستون ريتشارد. ويقوي ذلك بالمقارنة بين الأفكار البيداغوجية للأنظمة التربوية السائدة، واكتشاف قوى عميقة للتطور الاجتماعي في ميدان التربية، كما لا يجب إنكار التأثير المتبادل بين البنية الاقتصادية والاجتماعية والنظام التعليمي والأفكار الثقافية السائدة في المجتمع، وكل خلل في البنية الاجتماعية يعلن بشكل مباشر عدم كفاية الأنظمة التربوية، وأخطاء التوجيه الدراسي ونقص التكوين.
فهي تبعا لذلك تحاول إيجاد الحلول أو على الأقل جعل كل ما يؤثر في المؤسسة المدرسية من بعيد أو قريب موضع تساؤل مستمر، أملا في إيجاد الصيغة التربوية الكفيلة للنهوض بمجتمع ما وضمان فرص تعليمية متساوية لأبنائه، من أجل مستقبل أفضل وتفاديا لهفوات تربوية تعيق تنمية المجتمع وتؤثر سلبا في تنشئة اجتماعية سليمة للجيل الصاعد، إلا أن العمل من أجل ترسيخ هذه التربية الحديثة وتوفير شروط نجاعتها يتطلب جهدا كبيرا لصنع المستقبل المرتقب، يقول سعد الدين إبراهيم : »إن أسوأ صورة للمستقبل هي تلك التي تنتج عن الموقف السلبي من محاولة صنع المستقبل، موقف التخلي عن الإرادة الإنسانية، وترك الأحداث تصنع مستقبل الناس « .
إن الهدف الحقيقي للتربية ومناهجها يجب أن يراعي بكل موضوعية حاجيات العدالة الاجتماعية لجعل العلم والتجربة يساهمان أكثر في فهمنا للفرد والمجتمع. وقد حدد كاستون ميالاري، أهداف التربية في ثلاث : أولا على التربية الحديثة أن تتماشى والحياة الحاضرة، ثانيا : التربية الحديثة يجب أن يكون هدفها المستقبل الذي سيعيشه أطفال اليوم، ثالثا : التربية الحديثة يجب أن تشارك في تحديد وخلق الإنسان ومجتمع الغد.
والتربية في معناها العام هي فعل اجتماعي، وأكثر من ذلك تواصل أفكار، فن وتقنيات، إنها من أجل الكينونة والفكر ورد الفعل، والتربية تتضمن سيرورة تثقيف ومن خلالها يتم تحديد ميكانيزمات الوظيفة التربوية للمجتمع وطرق إدماج الفرد في هذا المجتمع، إلا أننا لا يمكن أن نتحدث عن تربية فعالة إلا في مجتمع ديمقراطي حيث هناك توازن بين المتطلبات الاجتماعية وحقوق الأفراد.
إن التربية بهذا المفهوم تهدف إلى بناء مجتمع ديمقراطي وترفض مفهوم النظرة السلبية نحو المستقبل، إنها تريد خلق الإنسان القادر على مواجهة عالم الغد، ليس كائنا متفوقا، وليس خاضعا، ولكن إنسانا واعيا بسلطته، بمسؤولياته وحقوقه، إن التربية الحديثة لا تحمل حلولا تطبيقية لكل المشاكل وإنما تبحث في طرق ووسائل حلها، وتلعب الأسرة والمدرسة دورا رياديا في ميدان التربية والتنشئة الاجتماعية، فالمؤسسة التعليمية لا يمكن فصلها عن المجتمع باعتبارها مؤسسة اجتماعية وأحد عوامل التحول الاجتماعي. والمجتمع هو المكان الذي يحتضن المدرسة، وفي نفس الوقت منبع التحفيز للتلميذ، وتغيير وإصلاح المدرسة لا يمكن أن يتم دون حدوث تغييرات اجتماعية، وكل نظام تربوي يجب أن يجيب عن سؤال رئيسي : أي نوع من الأفراد المكونين لأي نوع من المجتمع؟ وهو سؤال له علاقة وطيدة بنمط الإنتاج السائد.
إلا أنه في مجتمعنا، تمارس الهيمنة الخارجية ضغوطا أيضا على المستوى الثقافي، والنظام التعليمي ليس إبداعا محلية وإنما إما موروثا من العهد الكولونيالي أو منقولا طبق الأصل لأنظمة الدول المتقدمة، حيث لا تراعي الخصوصيات التي تميز كل مجتمع، مما يجعل المضامين والطرق المتبعة لا تلبي الحاجيات الحقيقية للأغلبية الساحقة من أبناء الشعب ولا تساعد على معرفة المشاكل ولا على حلها. يقول جون بوردا : إن كل جيل لا يتيح الفرص المقابلة وحل المشكلات الجديدة، بل يبدأ بالحلول الموروثة عن الأجداد وهذا هو السبب في أن الجهود العلاجية المبذولة تتقدم ببطء.
إن الخطاب المعاصر حول الأسرة يعالج بالدرجة الأولى اليوم أنماطا محدودة من الأسر، يرى أنها جديرة بالاهتمام والدراسة وتنتمي إلى طبقة محددة داخل المجتمع، إلا أن هذا الاختيار لا يبرر بما فيه الكفاية ويتم تعميم الخطاب على المجتمع وعلى النظام الاجتماعي. مما يطرح مشكلة الشمولية داخل إطار مجتمعي ذو علاقات متمايزة. حتى داخل الأسر النووية مثلا، تختلف العلاقات التي تربط مختلف أعضاءها، من أسرة نووية لأخرى، فالعلاقات وتبادل الأدوار داخل أسرة نووية تختلف من أسرة مثقفة إلى أخرى. وخصوصا في بلادنا لم ترق الدراسات المعاصرة سوسيولوجيا وابسيكولوجيا حول الأسرة ودورها التربوي إلى المستوى المطلوب من أجل تفعيل دورها كبنية اجتماعية محددة لكل أشكال الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية… ويتحدث عن ذلك دوركايم في تحليلاته عن الأسرة في درسه الرابع في علم الاجتماع، الأخلاق المدنية: يقول ، ليس هناك مجتمع سياسي لا يحتوي في صميم تشكيله من العائلات المتباينة أو من الجماعات المهنية المختلفة، أو من كلتيهما معا، ولو كان هذا المجتمع السياسي محصورا في مجتمع منزلي، لكان في الإمكان دمجه بهذا المجتمع ليصبح مجتمعا منزليا، لكنه منذ أن تكون من عدد معين من المجتمعات المنزلية، فإن المجتمع المتكون على هذا النحو صار شيئا آخر مختلف عن كل عناصره، وهذا أمر جديد ينبغي الدلالة عليه بكلمة مختلفة.
وتغيرت بذلك الأدوار التربوية للأسرة حيث سلبت المجتمعات الحديثة الأسرة وظائفها تدريجيا، فوظائف الأسرة قديما كانت واسعة تشمل معظم شؤون الحياة. والمجتمعات الحديثة أخذت تنتقص شيئا فشيئا هذه الوظائف وهذا ما نراه في كلام كونط حول الأسرة حيث يقول : « إن الإصابات الخطيرة التي تصاب بها هذه المؤسسة مباشرة اليوم ينبغي النظر إليها بوصفها من أشد إعراض ميلنا الاجتماعي العابر إلى الفوضى، إلا أن انتقادات كهذه، وهي تتمة طبيعية للغلو الحتمي للفكر الثوري المتصل بفوضانا الفكرية، ليست بوجه خاص خطيرة حقا إلا بسبب العجز الراهن الشديد للمعتقدات التي مازالت ترسى عليها، وحدها الأفكار العائلية على غرار كل التصورات الأخرى. » وهذا دليل على بداية التحولات داخل الخلية الأسرية مع بداية عهد التصنيع، وظهور المجتمع الصناعي، إلا أنها تبقى المؤسسة الأكثر أهمية في النظام الاجتماعي وهو ما يؤكده كونط حيث يرى على أن الوحدة الاجتماعية الحقيقية تكمن يقينا في الأسرة وحدها وأنها هي البدرة الضرورية لكل الاستعدادات الأساسية التي تميز الجسم الاجتماعي العضوي.
ورغم هذه التحولات العميقة التي عرفتها الأسرة فهي الإطار العام الذي يغطي جميع الأدوار الاجتماعية المختلفة التي يلعبها الفرد على مسرح الحياة. وهي الأساس الذي يحيط باستجابات الفرد المختلفة اتجاه بيئته التي يعيش فيها. وكل تقصير في أحد أدوارها يؤدي إلى اضطرابات نفسية وسلوكيات شاذة تدفع بالطفل نحو نوع من الضياع، فالأسرة إذن عبارة عن منظومة تتكامل داخلها الأدوار والتفاعلات كوحدة وظيفية لا يمكن أن تمارس وظائفها إلى في إطار الاستقرار النسبي، فهي المؤسسة الأولى التي تضمن للطفل نموا، وتطبيعا اجتماعيا، وتمارس أول مراقبة لسلوكه. ودور الأسرة سلطوي ويحدد بطريقة محددة مستقبل الطفل، والأسرة تمارس على الأطفال نموذجا ثقافيا خاصا، وهذا صحيح لكل أنواع المجتمعات كيفما كانت تقليدية أو ذات مصنعة.