محسن الأكرمين.
اليوم كان الدكتور المحاضر أنيق الجلسة، وأوسعنا حديثا مطولا عن حياة عبد الرحمان المجذوب . كان المحاضر يفصل القول في هجرته إبان سقطة الدولة الوطاسية وعلو كعب الدولة (المخزنية) السعدية. كان مأثور المجذوب اللامادي (الشفهي) في رباعياته يفكك بتناغم مع المناهج الحديثة، وقد أسمعنا المحاضر من تحف حكمه ما يلازم الاستدلال باتساع التعويم.
اليوم من محاضرة مدرج الجامعية، اكتشف مجذوبا جديدا للتراث والاختلاف بمكناس، واستحضرت كتاب (هايدغر ضد هيجل) لعبد السلام بن عبد العالي. لأول مرة أقف أن المجذوب يشابه السياسي المتمرد على المخزن المستبدة (الدولة السعدية). لأول مرة وجدت المقارنة بين أفلاطون (المدينة الفاضلة) ومجذوب مكناس (التالف) بين الحواضر والأرياف، وجبال زرهون العالمة.
كان المجذوب عبد الرحمان حاضرا في الملصق بخلفية الظهر المعقوف، كانت ملامحه تسائل الجميع عن أوجه المقارنة والمفارقة من خلال المناهج الغربية. حتى بات المجذوب البسيط غريبا عنَّا، وهو الذي عمَّر كلامه تاريخا بالتواتر. فحين كنت أقفز بعيني المائلة نحو المجذوب (النمطي) كان يسائلي: ما هذا يا ابن الأكرمين؟ حينها كنت أرتد بطرف العين حشمة، ولن أجد له جوابا قارا وشافيا عند علماء التاريخ الجدد. حين تم إخراجه من بيئته الاجتماعية، ونسقية الأحداث الانتقالية بتعسف، كنت أتودد إليه بألا يثور برباعية جديدة أمامنا، وهو حتما لا يعرف لا أفلاطون، ولا أرسطو، ولا هادغر، ولا هيكل… لكني فرحت كليا حين ابتسم لكتاب التراث والاختلاف.
كل التاريخ الخيالي والمنسوج بالحبكة (لن ينفع رأس شاهد مدفن المجذوب !!)، فالمحاضر أسر على الترفع وتقطيع الكلمات بالإسقاط والإقحام على الدرويش الأول بمكناس عبد الرحمان المجذوب. هو التاريخ المغربي الذي لم يسلم من الدراسة العشوائية التابعة للمناهج الغربية (الفارقية). هو التاريخ الذي جعل من عمر بن إدريس الجيلالي بن إدريس محمد اليوسفي الزرهوني الثائر يحمل اسم (بوحمرة ) ولقبه خصومه (بالروكي) وأحرق بمشهد رهيب !! هو التاريخ المغربي الذي كان يحمل سؤالا واحدا ووحيدا بمدرسة المرحوم أحمد بوكماخ (من بنى مدينة مكناس؟) حيث تكون إجاباتنا جماعية (المولى اسماعيل)، حينها يقول المعلم (أحسنتم الله يرضي عليكم). بعدها في الجامعة أحسست أن تاريخ الشعوب والدراويش والمساكين مسكوت عنه بالإجماع، و قد يتهرب الدكتور المحاضر عن هذه المعادلة التي لا تستوجب (التحليل الغربي).
لأول مرة أعلم أن زوجة عبد الرحمان المجذوب توفيت حبا في افتقاده سنوات حجه بيت الله الحرام. لأول مرة يعلن ويسر لنا المحاضر (ة) أن المجذوب تزوج امرأة من بلاد (ازحيليكة) واستقدمها مع ربيبها المشاغب إلى مكناس !! لأول مرة أعلم أن مسار المجذوب وتاريخه ضاع بين القبائل. لأول مرة تختلط علي مداخل الفكر الصوفي بالمغرب ويتم التداول في فرق لم تلامس البقاء بدار مغرب الإسلام. لأول مرة أقول الحمد لله على تبني المغرب المذهب المالكي وعقيدة الأشاعرة وتصوف الجنيد.
حضر الحديث عن المجذوب من جوانب التاريخ (المخفوض)، وتقابلات المناهج الفلسفة، وغاب في الندوة المجذوب الذي أحب رباعياته، أحبه كرجل حمل همَّ حياة ساكنة مكناس بقلبه وكلامه. غاب المجذوب الدرويش (التالف) في الوجودية والكينونة والملكوت الرباني، وحضر المجذوب (المشاغب) الذي لا يعير للمناصفة أية قيمة بعد زواجه من حسن المرأة (الزحيليكية).
غاب الحاضر الذي ما فتئ يأتي بمتغيراته الاجتماعية والقيمية، ولم تقدر الندوة جرَّ المجذوب نحو الحاضر ليحارب معنا التفاهة ونظم الميوعة. حضرت مجموعة من الأسئلة ألزمت المحاضر الصمت وهو من صمت المجذوب !! وبات الخوف من سؤال التنوع رقيبا؟ غابت قيمة المحاضرة العلمية، حين لم تقدر المنصة العلوية كشف المستورات الفارقية!! ولما حتى تزكية فطرة (الهداوي) وعقل التجديد، ومعرفة مجذوب مكناس البسيط في كلامه الرباعي، ومجذوب فاس، ومجذوب زرهون العالمة، ومجذوب مصر، والمجذوب المعتقل بالعراق. قد يضيع ملمح المجذوب في تنوع الورق والتحليل والأماكن، و في الفكر السردي التاريخي غير المفكك بنيويا. في الأخير سألني المجذوب حين كنت أود ترك مدرج جامعة المولى إسماعيل : ألهذا جمعتنا؟