آخر الأخبار

ميدلت: من رماد الجلود تولد القصيدة: حكاية فنانة ومجتمع

[بلادي نيوز]3 أغسطس 2025
ميدلت: من رماد الجلود تولد القصيدة: حكاية فنانة ومجتمع

Beladinews.ma

يوسف القاضي

بين ثنايا هدوء الطبيعة، وجغرافية ميدلت المغرية بالإبداع، وبين أروقة تتنفس عبق التراث، تنبعث الحياة من جديد من مادة كان يُنظر إليها حتى وقت قريب على أنها مجرد نفايات لا تصلح إلا للطرح في المزابل، وتأنف النفوس من ريحها.

الفنانة التشكيلية سعاد كورادا استطاعت أن تُحول جلود الخرفان المهملة إلى قطع فنية نابضة بالحياة، تحمل بين خيوطها قصة امرأة تؤمن بأن الفن يمكن أن يكون مدخلاً للتغيير الاجتماعي والاقتصادي، وأداة راقية للحفاظ على البيئة ومصالحة الذات مع الذاكرة الجماعية.

الجلود… من مورد ثمين إلى نفاية مزعجة

لطالما كانت جلود الخرفان بعد عيد الأضحى تُشكّل موردًا اقتصاديًا مهمًا، تُجمع وتُنقل إلى دور الدبغ حيث تُحوّل إلى منتوجات جلدية فاخرة. لكن في السنوات الأخيرة، تغير المشهد تمامًا: لم تعد هناك منظومة لجمع الجلود، ولا آليات لحفظها من التلف، فباتت تُطرح في القمامات أو قرب المجازر، مسببة روائح كريهة وتشويهًا بصريًا وبيئيًا للأحياء.

الناس أصبحوا يتخلصون منها في الخفاء، وكأنهم يرتكبون جرمًا، بعد أن فقدت قيمتها الاقتصادية وتخلّت المؤسسات عن مسؤولياتها في تثمين هذا المورد الطبيعي. في هذا السياق المظلم، لمعت فكرة سعاد كشمعة ترفض الانطفاء.

ولادة فكرة… وبداية حلم

بدل أن تكتفي بممارسة الفن من خلال الألوان واللوحات، اختارت سعاد أن تخوض غمار تجربة جريئة: إعادة تدوير جلود الخرفان وتحويلها إلى منتجات فنية مستوحاة من التراث المغربي، خصوصًا الأقمصة الجلدية المزخرفة يدويًا، الحقائب، الأحزمة، واللوحات الجدارية، في مزيج فريد من الإبداع والحرفية والالتزام البيئي.

لم تكن البداية سهلة، فالسوق لم يكن مستعدًا، والجلود تُفسد بسرعة إذا لم تُعالَج. لكنها استعانت بمعارفها في فنون التشكيل والدباغة التقليدية، وأطلقت مشروعًا صغيرًا داخل مرسمها الذي تحوّل شيئًا فشيئًا إلى ورشة جماعية تأوي نساءً في وضعية هشاشة، خصوصًا الأرامل والمطلقات اللواتي يفتقدن أي دخل قار.

فن راقٍ… واقتصاد تضامني

مشروع سعاد ليس مجرد مبادرة فردية فنية، بل هو نواة للاقتصاد التضامني بكل ما يحمله المفهوم من دلالات. فقد وفّر هذا المشروع فرصًا للشغل الكريم لعدد من النساء اللائي كنّ على هامش الحياة الاقتصادية. بعضهن يتعلمن الدباغة، وأخريات يتخصصن في الحياكة أو الرسم على الجلد. تُتقاسم الأرباح بشكل عادل، ويُعاد استثمار جزء منها في تطوير التجهيزات ودورات التكوين.

“مشروعي هو صرخة فنية وإنسانية ضد التهميش، وضد منطق التبذير البيئي. نحن لا ننتج فقط قطعًا فنية، بل نُعيد بناء حياة نساء فقدن الأمل”، تقول سعاد وهي تشير إلى مجموعة من المتدربات اللواتي يعملن بصمت وحماس على جلد تم تنظيفه ودبغه حديثًا.

مطالبة بدعم رسمي لمبادرة رائدة

رغم النجاح النسبي الذي حققته سعاد كورادا، إلا أن المشروع ما زال يواجه صعوبات كبيرة في التمويل، وغياب الدعم المؤسساتي. فهي تطالب وزارة الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني بالتدخل لدعم هذا النموذج الفريد، لأنه لا يخدم فقط أهداف الاقتصاد الأخضر، بل ينسجم تمامًا مع الرؤية الوطنية لتمكين المرأة وتعزيز الاقتصاد المحلي.

وتُضيف سعاد: “لدينا منتوج فني وصديق للبيئة، نُحيي من خلاله جزءًا من تراثنا، ونُوفر عبره دخلًا لنساء معوزات. لكننا بحاجة إلى دعم حقيقي في مجال المعدات، التسويق، والتكوين المستمر. مشروعي ليس تجاريًا صرفًا، بل هو مقترح لحل اجتماعي بيئي ثقافي متكامل”.

حلم بالتوسّع والانفتاح التربوي

وتطمح سعاد إلى توسيع نطاق تأثير مشروعها من خلال خلق نوادٍ للصناعة التقليدية داخل المدارس والإعداديات، لتمكين التلميذات والتلاميذ – خصوصًا أصحاب الحس الإبداعي – من استثمار أوقات فراغهم في التعلم والإبداع في هذه الفنون الجميلة. كما تدعو الفنانة التشكيلية مؤسسة التعاون الوطني إلى الانفتاح على هذا الفن البيئي داخل نوادي التربية والتكوين المخصصة للنساء، لما له من أثر إيجابي في تقوية المهارات الحياتية وتحقيق الإدماج الاجتماعي.

كما توجه نداءً إلى الغرفة الجهوية للصناعة التقليدية من أجل إعداد برنامج متكامل يجمع بين التكوين والدعم والاستثمار في هذا الموروث الثقافي الأصيل، بما يضمن استمراريته وتطويره وانخراط أجيال جديدة فيه.

من المحلية إلى العالمية؟

تحلم سعاد أن تتطور ورشتها إلى تعاونية نسوية حقيقية، تتوسع على المستوى الوطني، وربما تُشارك في معارض دولية للحرف اليدوية والمنتجات البيئية. وتؤمن بأن المغاربة في الداخل والخارج سيكونون فخورين باقتناء تحف جلدية مغربية تحمل روح الفن الأصيل، وتروي حكاية تحويل المهمل إلى ثمين، والبؤس إلى كرامة.

ختامًا

تُجسد تجربة سعاد كيف يمكن للفن أن يُغير الواقع، حين يتقاطع مع القيم، والحس المجتمعي، وحب الطبيعة. إنها ليست فقط فنانة تشكيلية، بل امرأة تحمل على عاتقها مهمة إبداعية ورسالة إنسانية عميقة، تستحق أن تجد آذانًا صاغية وقلوبًا داعمة.

الاخبار العاجلة