هيئة تحرير : بلادي نيوز .ما
لقد كان لصاحب الجلالة الملك محمد السادس دور حاسم في حفظ وإعادة تأهيل وتثمين التراث الوطني، ولا سيما تراث مدينة مكناس، جوهرة المدن الإمبراطورية في المملكة.
منذ اعتلائه عرش المملكة سنة 1999، أولى جلالته اهتمامًا خاصًا بالمدن التاريخية، وجعلها في صلب الأولويات الثقافية والسياحية للمغرب. وبفضل توجيهاته السامية، تم إطلاق برامج طموحة لترميم المعالم التاريخية، من بينها مشاريع كبرى بمدينة مكناس، شملت إعادة تأهيل الأسوار، وقبة ضريح مولاي إسماعيل، وباب المنصور، المعلمة الأشهر في المدينة.
وتعكس هذه المشاريع المتميزة ارتباط جلالة الملك العميق بصيانة التراث العريق وإشعاعه دوليًا.
كما انه كان لجلالته الفضل الكبير ، من خلال دبلوماسيته الثقافية وتوجهاته الاستراتيجية، في إدراج مدينة مكناس ضمن مسارات الذاكرة الحية والتاريخ الإنساني العالمي.
-ذكرى تستحق الاحتفال: مكناس، تراث عالمي تحت رعاية اليونسكو.
في السابع من ماي سنة 1984، وخلال دورة تاريخية للمجلس الجماعي لمدينة مكناس، تم تقديم مبادرة غيرت مجرى تاريخ المدينة إلى الأبد: طلب تسجيل مكناس ضمن لائحة التراث العالمي لليونسكو، من طرف المجلس الجماعي للمدينة بناءا على ملتمس تقدم به الاستاذ محمد بن الماحي.
وراء هذه المبادرة اذن كان هو محمد بن الماحي ، رجل القانون والمنتخب المحلي البارز، ابن المدينة (من مواليد الدار الكبيرة – قصر مولاي زيدان)، الذي تقدم بمذكرة رسمية أمام المجلس الجماعي تلتمس الاعتراف بمكناس تراثًا إنسانيًا عالميًا.
في تلك الحقبة، لم يكن الكثيرون يدركون الأبعاد الاستراتيجية للتراث الثقافي في تعزيز التنمية المحلية والإشعاع الدولي. إلا أن عزيمة محمد بلماحي وزملائه أثمرت، وبعد 12 سنة من العمل الدؤوب، تم إدراج مكناس سنة 1996 ضمن قائمة التراث العالمي، لتكون بذلك ثالث مدينة مغربية تحصل على هذا الاعتراف بعد فاس (1981) ومراكش (1985).
-اعتراف مستحق ثمرة 12 عامًا من الجهد المتواصل.
لم يكن تصنيف مكناس ضمن تراث اليونسكو نتيجة طلب إداري بسيط، بل كان ثمرة مسار طويل بدأ سنة 1984، وشمل إعداد ملفات تقنية، وتنظيم زيارات ميدانية، وتعبئة محلية، وترافع وطني ودولي أمام اليونسكو.
وقد تطلّب هذا المسار توثيق وتثمين أكثر من 40 موقعًا تاريخيًا، من بينها الإسطبلات الملكية، وساقية أكدال، والمدارس العتيقة، والمدينة العتيقة، وأسوار المدينة التي تمتد لأكثر من 40 كيلومترًا، وباب المنصور الذي يُعد من أكبر الأبواب الأثرية في القارة الإفريقية.
-مكناس: تراثٌ عريق ورهانٌ عصري
تأسست مدينة مكناس في القرن الحادي عشر، وتُعد واحدة من العواصم الإمبراطورية الأربع للمغرب. وقد ازدهرت خصوصًا في عهد السلطان مولاي إسماعيل خلال القرن السابع عشر، حيث أصبحت مركزًا عسكريًا وحضاريًا بارزًا.
اليوم، يبلغ عدد سكان المدينة أكثر من 800 ألف نسمة، وتستقطب سنويًا نحو 300 ألف زائر، 30٪ منهم من السياح الأجانب. ومنذ تصنيفها ضمن لائحة اليونسكو، ارتفعت نسبة الزوار بنسبة 40٪، ما ساهم في تنشيط قطاعات متعددة كالصناعة التقليدية والفندقة والمطاعم ومهن الصيانة والترميم.
-مكناس تستعيد وهجها،
في شهادة مؤثرة، عبّر الراحل يحيى السعيدي عن اعتزازه للدور الريادي الذي اضطلع به الاستاذ محمد بن الماحي في الذكرى العشرين لتصنيف مكناس كتراث عالمي مدليا بالوثائق الرسمية ومحاضر جلسات 1984 التي تثبت بما لا يدع مجالًا للشك مكانته كمبادر حقيقي لهذا المسار الحضاري.
صحيح أن شخصيات سياسية أخرى ساهمت في إنجاح هذا المسار، لكن التاريخ لا ينسى، فهو يُنصف من صنعوا الإنجاز بهدوء، وبعيدًا عن الأضواء.
-اعتراف مستحق ببناة الذاكرة الوطنية
اليوم نلاحظ ان هناك رغبة واقعية والحاح كبير من طرف ابناء العاصمة الاسماعيلية ولاسيما الرجال الذين خدموا تراث الأمة بإخلاص.
فقد شكّل مجلس جماعة مكناس (1983 – 1992)، نموذجًا للمبادرة الثقافية والوطنية الصادقة وهي الخطوات التي يسير عليها مجلس المدينة حاليا برأسة مولاي العباس المغاري ، ابن المدينة البار .
ان دافعهم ليس بسياسي ، بل مواطنًا وثقافيًا بالدرجة الأولى. واليوم، تتجاوز المكاسب الاقتصادية والثقافية لتصنيف المدينة ضمن تراث اليونسكو عشرات الملايين من الدراهم سنويًا، من خلال المشاريع السياحية وفرص العمل واستثمارات الترميم.
خاتمة: مكناس، جوهرة حية في قلب التراث المغربي
إن تصنيف مكناس كتراث عالمي لم يكن صدفة ولا منّة، بل هو نتيجة لرؤية مستقبلية، وإرادة سياسية محلية، ودعم ملكي مستمر. فمكناس ليست مجرد مدينة قديمة، بل هي ذاكرة حية، ومدرسة معمارية، وقلعة ثقافية شامخة.
وبفضل صاحب الجلالة الملك محمد السادس، وبفضل التزام المؤسسات الوطنية والمحلية، ستواصل مكناس إشعاعها، لا كأثر جامد، بل كمدينة وحاضرة تنبض بالتاريخ وتتطلع إلى المستقبل.