بعد أن توجته الجمهورية الفرنسية بوسام الاستحقاق الزراعي برتبة قائد خلال حفل رسمي أقيم في باريس يوم 19 فبراير 2025 على شرفه ، يعود اسم الدكتور محمد صديقي، وزير الفلاحة السابق، ليتألق من جديد، لكن هذه المرة في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث خصّته جامعة مينيسوتا بتكريم رفيع المستوى، بمنحه جائزة “الإنجاز المتميز” (Outstanding Achievement Award)، وهو أرفع وسام غير أكاديمي تُقدمه الجامعة لعدد محدود من خريجيها الذين تركوا بصمات استثنائية في ميادين تخصصهم.
جاء هذا التتويج اعترافاً بعقود من العطاء والريادة في ميدان العلوم الزراعية، حيث يُعد الدكتور صديقي من الأسماء البارزة التي أسهمت في صياغة ملامح البحث الزراعي والتخطيط الاستراتيجي بالمغرب، بل وفي القارة الإفريقية.
من طالب علم إلى رائد في السياسات الزراعية..
بدأت رحلة الدكتور صديقي في جامعة مينيسوتا سنة 1990، حين حصل على شهادة الدكتوراه في علوم الوراثة النباتية ، وهو التكوين الذي شكل المنطلق لمسار علمي ومهني تميز بالجدية والتأثير. وكانت إحدى أبرز محطات مسيرته الأولى مشاركته في “مشروع مينيسوتا”، وهو مشروع تعاون تقني بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية، مموّل من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، والذي انطلق عام 1969 بهدف تأهيل أطر وطنية في مجالات العلوم الزراعية والبيطرية، لتلبية حاجيات المغرب التنموية في هذا القطاع الاستراتيجي.
باحث متميز وصانع للبرامج البحثية…
عقب عودته إلى المغرب، التحق الدكتور صديقي بمعهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة بالرباط، حيث تميزت مسيرته العلمية بإسهامات رائدة في مجال وراثة البقوليات والمحافظة على التنوع البيولوجي الزراعي. وركزت أبحاثه على تحسين محاصيل البقوليات الغذائية مثل الفول، الحمص، والفول السوداني، بالاعتماد على التقنيات الحديثة في البيوتكنولوجيا والواسمات الجزيئية، مما أسفر عن بناء برنامج بحثي بمعايير عالمية في هذا المجال الحيوي.
قيادة أكاديمية ومهام استراتيجية…
في عام 2005، تم تعيينه مديراً للبحث العلمي والدراسات العليا بالمعهد، قبل أن يتولى منصب المدير العام سنة 2009، ليقود بذلك أكبر مؤسسة فلاحية جامعية بالمغرب. غير أن تأثيره لم يتوقف عند حدود المؤسسة الأكاديمية، بل امتد إلى أعلى مستويات القرار الفلاحي، حيث عُيّن كاتباً عاماً لوزارة الفلاحة ابتداء من سنة 2013، وكان أحد المهندسين الأساسيين الذي شارك في تنفيذ “مخطط المغرب الأخضر”، الاستراتيجية الوطنية التي أحدثت تحولاً كبيراً في القطاع الفلاحي المغربي.
وبفضل كفاءته المرموقة في تعبئة الموارد وتعزيز الشراكات الدولية، ساهم الدكتور صديقي في بلورة وتنفيذ مشاريع تنموية ضخمة لفائدة العالم القروي، مكرساً بذلك دوره كفاعل مركزي في النهوض بالقطاع الزراعي.
وزير بحجم الرهانات الوطنية…
في أكتوبر من عام 2021، وصل مسار الدكتور صديقي إلى محطة جديدة من المسؤولية، حيث تم تعيينه وزيراً للفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، وهو المنصب الذي شغله إلى غاية فبراير 2025، وأكد من خلاله استمراره في خدمة الوطن من موقعه الحكومي، عبر دعم الابتكار، وتحقيق الاستدامة، وتكريس العدالة المجالية في توزيع المشاريع والاستثمارات.
كما انتخب نائباً عن إقليم بركان بمجلس النواب، حيث ظل وفياً لروحه الميدانية والتزامه بقضايا المواطنين.
تكريم مستحق وشهادة من صرح علمي عريق..
وفي سياق تكريمه، عبّر البروفيسور غاري موهلباور، رئيس قسم الزراعة ووراثة النباتات بجامعة مينيسوتا، عن فخر الجامعة بانتماء الدكتور صديقي إلى خريجيها قائلاً:
“الدكتور صديقي يجسد النموذج الأمثل للطلبة الدوليين الذين مرّوا من قسمنا. لقد أثرى، مثل العديد من الخريجين الدوليين، بيئة القسم بثقافته وعلمه، وواصل بعد تخرجه تقديم إسهامات بالغة التأثير في مجالات الأكاديمية، والحكامة، وخدمة المجتمع. نحن نعتزّ بإنجازاته التي تلهم أجيال المستقبل.”..
وعلى هامش هذا التتويج، ألقى الدكتور صديقي محاضرة علمية بعنوان: “الفلاحة المغربية والأمن الغذائي: التحديات واستراتيجية التنمية”، استعرض فيها أبرز الرهانات التي تواجه الزراعة الوطنية، وسبل تطويرها في ظل التحولات المناخية والديموغرافية المتسارعة.
نموذج للقيادة والعلم وخدمة الوطن..
إن سيرة الدكتور محمد صديقي تجسّد التكامل بين التكوين العلمي الرصين والالتزام المجتمعي العميق، كما تشكل مصدر إلهام لكل من يسعى إلى توظيف العلم والمعرفة لخدمة بلده والمساهمة في تحقيق تنمية شاملة ومستدامة.
جامعة مينيسوتا، بهذا التكريم، لم تكرم فقط شخصية علمية مرموقة، بل احتفت بمسار مغربي وطني بامتياز، كتب فصوله بالعمل والاجتهاد داخل المختبرات، في الميدان، وعلى طاولات التخطيط الاستراتيجي…