حضرة البوح” لويزا ومارين: د عبد الرحمن بن زيدان. عتبة لإنعاش المسرح المغربي بأكسجين التغيير والتجديد

محسن الأكرمين.

 

كان لي شرف حضور المناقشة الأدبية لمسرحية (حضرة البوح) للدكتور عبد الرحمان بن زيدان، وكذا حفل التوقيع والتكريم. لذا أوجه شكري لكل من ساهم في هذا الحفل البهيج، وللحضور المثقف الوازن، كما أعزز شكري لرئيس وأعضاء الجمعية المغربية للتنمية الاقتصادة والاجتماعية والثقافية على دعوتهم الكريمة، وهذا نص مداخلتي:

الاستعراض الأول: مدخل.

من الاعتراف بالجميل وقفة احترام لأستاذ غرفت منه فيض المعرفة في مدرجات جامعة المولى إسماعيل. لأستاذ كانت تشدنا محاضراته بالكثرة والحضور، كانت موضع البحث عن تساؤلات المعرفة والفهم والتحليل، ولما لا الوقوف على خشبة مسرح الحياة.

من صدق شعور الفخر والاعتزاز بأحد أعمدة أهرام الكتابة الأدبية والنقد المغربي، والتنظير المسرحي الدكتور سليل المنبع الطيب، والأسرة العالمة بمكناس سيدي عبد الرحمان بن زيدان.

أستاذنا، أعلم أنكم بطبعكم لا يستهويكم ذكر مناقب سيرتكم الذاتية المتنوعة بالعطاء والتفاعل. لا يستهويكم تِعدادُ حصيلة سنوات من البحث والتدوين والتأليف في مكون أب الفنون المسرح والأدب والنقد.

لا يستهويكم ذكر بصماتكم الحصرية، وتلك كلمات الإفادة والإشادة في المؤتمرات والندوات الدولية والوطنية، لكني اليوم أقف أمام مقامات وعتبات رجل أبلى البلاء الحسن في إنعاش ذاكرة المسرح المغربي والعربي والدولي، و تكثيف تحصين وتدوين تاريخ المسرح العربي.

رجل خدم المسرح بامتياز في عز فجوات الثقب الأسود و تحولات العولمة الإليكترونية والمعرفية، وكذا نكوص المشهد المسرحي بالمغرب. دكتور علمنا أن من فوق الرُّكح المسرحي يبدأ النضال من عند أب الفنون، ومنه قد نعيش لحظات من الحلم والخيال، ومن الحقيقة الواقعية.

ومن رُكح أبسط عرض مسرحي، يمكن أن نكتسب الجهر بالحق والدفاع عن قضايا الوطن والأمة العادلة، ومقاومة صخرة الفزع الحضاري، ومواجهة آفة التعصب والإرهاب والسياسية الوصولية/ الريعية.

الاستعراض الثاني: مسرحية “حضرة البوح” لويزا ومارين.

عنوان يشكل بطارية مُطارحة مسرحية تضع لنفسها هدفا أنيقا للدفاعِ عن الحرية والعدل، والتنوير، والحداثة (البعدية)، وكذا الدِّفاعَ عن أُطروحات الفرح بالحياة، ضد مشروع الشر والفزع الإرهابي.

عنوان (بوح) وفضح للإيديولوجيات والأسرار المتخفية وراء الانتهازية السياسية، والمقامرة بالأرواح البشرية.

فيما (الحضرة) فهي ترميز ذكي لإتباع شيخ طريقة دون معرفة الخلفيات والتبعات والمآلات. وسواء تعلق الأمر ب”حضرة” مقدسة أو مدنسة، فإن (حضرة) ابن زيدان تعتمد على الانكشاف والتعري والتخلص من عبء الأقنعة الاجتماعية التي يُجْبر الفرد على وضعها ليعيش مع الآخرين.

هنا نقول أن ابن زيدان: ” يبحث عن تجليات النفس كي تتحرر من همومها وضغوطها ومرتداتها المرهقة، فالغاية تُسَوِّغ وسائلَها، ولا تكترث إلا بفضح المستورات”.

يقول الكاتب ” الإرهاب لا وطن له، ولا لون له، ولا عقيدة له إلا عقيدة العنف، والذي لا ُيبْقِى ولا يَذر، لأن هَمَّه السَّادي هو اغتيال لحظات الفرح في مهدها، وهذا ما قدمتُ أحواله لأول مسرحية مغربية تتناول موضوع صناعة الإرهاب في العالم”.

إنه عنوان يحمل “الوعي التاريخي، ومعرفة بالوقائع ومداراتها/ ص11″، مسرحية “ملحمة العصر” وفق توصيف ابن زيدان لعمله.

وعن سبب اختيار “حضرة البوح” كعنوان يقول الكاتب : ” توخيت أن أعطي لبوح المدينة كل ما يُقربنا من زمن العنف (الداعشي) المُمارَس على الناس والعباد، من قبل مروّجي الجهل، والغباء والجنس والمخدرات والجهاد الجنسي وتشويه الأديان، وتحريم التعاطي مع كل ما يفتح أمام الإنسان أمل العيش بكرامة وحرية، والعيش بثقة كاملة بما تمنحه الحياة ويمنحه المجتمع المحب للسلام والعدل والعدالة والمساواة”.

نعم،” مسرحية (حضرة البوح) تُعْلن عن موقفها من عالم مُرهب للنفس والذوات والأرواح ، يقول الكاتب” حين تصير الكتابة لا تطاوع أفكاري ولا تساعدني على إظهار ما تفكر فيه معي وأنا أفكر معها حول مدارات الحياة/ ص5″، من هذا الزمن المخيف …. الناطق بحيوية التفاعل وبحذر لمعرفة المؤهلات العدوانية المسخرة لصناعة الإرهاب/ ص7″ .

نعم، هي مسرحية الواقع/ الحلم/ التخيل عن هذه الحياة، حيث الكاتب يحضر معه “الحلم بمعانقته في الواقع، أو معانقة واقع حلم في مسارات التخيل”.

في نص “حضرة البوح”، اختار بن زيدان الإرهاب موضوعا، قائلا إن “الكتابة بالإبداع يمكنها أن تستحضر هذا العالم التراجيدي وفق رؤيتها وموقفها من كل الوقائع وكل غاياتها هي التمسك بزمن الوعي بمكونات تريد بها امتلاك الوعي الحقيقي بعالمها، حتى تدب الحيوية في فعل تغيير هذا العالم بما يوافق كل قيم الإنسان التي بدّدتها كل الأفكار الظلامية، والتي توظف كل شيء من أجل مسخ الجميل … ومحو الأنقى في الحياة.

فحين نَتناول قراءة مسرحية (حضرة البوح) نُحس بمعاناة الكاتب حتى في اختيار كلماته ومصطلحاته، تحس أن ابن زيدان كان يكتب ثم يتركها جانبا، ثم يثيره فضول الكتابة ثانية، ويعود لمخطوطاته بالتتميم.

يقول هي “المعاناة الملتهبة في الذات، والمنطفئة ظاهريا في الواقع، تحت تأثير التمويه الذي تمارسه الموانع، والتحريمات، والقوانين خادمة مصالح من له منفعة في إشعال الحرائق في العالم مدعوما بما تمارسه وسائل الإعلام المحصنة بالقوانين التي لا تريد أن ترى الإبداع حيا يفكر في عالمه”.  هنا نقول أن عبد الرحمان اقتحم بجرأة حصنا من مسكوتات العالم بالإفصاح لا الإضمار…

فالتحدي ظَلَّ عند ابن زيدان “حالة من الوعي التاريخي/ص7”. أفكارٌ تَظهر من عالم الانكسارات وزمن العولمة …. بين ما هو قار وبين ما هو متحول/ص87). تحد يبحث عن تحفيز البحث عن “تمثلات مغايرة عن التمثلات السائدة في الكتابة المسرحية/ص10″،فالكاتب يبحث عن فضول النزوع نحو الإعلان عن فهم جديد لعالم يُفصحُ عن خطابات الدراما … وعن عنف العالم/ص10”.

عبد الرحمان “أعاد الاعتبار للكتابة النصية… وخلق التفاعل بين الواقع  والمتخيل/ ص10″ ولما لا، الإعادة المقصودة لمفهوم النص المسرحي كإبداع ومعاناة ومواقف ورؤية للعالم/ وإعادة لنص المؤلف حياته التي ضاعت بين كل دعوة بدأت تتزعم خطأ إلغاء النص المكتوب لصالح عرض بدون نص… ص11”

“حضرة البوح” قد نعتبرها بحق كتابَ فلسفية “يَحيد بعدا عن الكتابة الفوتوغرافية والوصفية…. ص/11″ إنه دلالة هوية جديدة للنص… ” فموضوع الإرهاب والمرأة هي القضايا الساخنة التي لا تزال حية بتناقضاتها ومفارقاتها في المجتمع/ص12″.

في مسرحية “حضرة البوح” نقل ابن زيدان “ظاهرة الإرهاب إلى الكتابة…. واستعراض حالة المرأة الواعية…. والاكتواء بحرقة المفارقات/ص12” مفارقات أثمرت نوعا فريدا من التساؤلات الماكرة:

من يصنع الإرهاب؟

مَن يصنع السياسة الجديدة في العالم تلتهمه (العولمة)؟

ما هو الوعي الحضاري بتشكيلاته المتلونة، ومن يشكل معالمه الكبرى؟

ما هي المفارقات التعريفية بين الأنا والآخر، وتوجيه مدافع الإرهاب بين الشرق والغرب؟

كيف هي مكائد الادعاء المنافق بأقساط الإيمان ومن يسند ويسانده في انتهازيته؟

ما هي مفجرات القمع والانحسار، وتبيان آهات المجتمع في ظل إشكاليات الوصولية السياسية والإرهاب؟

كيف يمكن تصنيع الإنسان بالايديولجيا الوصولية؟ (قزح الشيطان وآباؤه/ص12)

كيف للكاتب تمكين إحضار الرمزية في النص المسرحي وخلطه بالواقعية؟

كيف للكاتب الموازنة بين تماثل الواقع وتفجير المتخيل في بنية النص المسرحي؟

 الاستعراض الثالث : الظاهرة الارهابية

تتشابك في هذا النص المسرحي “حضرة البوح”الظاهرة الإرهابية وموضوع المرأة ” و تمثلها هنا الطبيبة (العروف) ، ويرافقها قرينها المدافع عن حقوق الإنسان (العريف)” ، القادمين من “معرفة نقيضهما (قزح الشيطان وأبناؤه) الرمز في النص الذي لا يحيل على نفسه فقط، بل يحيل على العالم الذي يريده أن يكون موجودا وفق هواه، ووفق ما تمليه عليه مصالح المهيمن عليه الذي هو صانع ومهندس الشر والإرهاب في العالم”.

ويتابع ابن زيدان تحديد المهام : “هذه المرأة (العروف) بمعرفتها لنقيضها (قزح) ستقوم بفضحه، وبعملها ستختصر أوجاع كل حالات النساء وبوحهن الذي يمزج القلق بالأمل في العيش، حتى يداوين جروحا تُطهِرُهُنَّ بالتفاؤل من أدران واقع صار عنيدا وظالما، ومجحفا … يفتري كذبا عن المرأة والرجل والمجتمع للحد من شكل وجودهما، ولاسيما حين يشعر بقوتهما الفكرية، فيلجأ إلى صناعة الأتباع، والمريدين، والأشباح، لتشويه الأديان بفكره المشوه“.

الاستعراض الرابع : لويزا ومارين.

“لويزا” و “مارين” ترميز القطيعة ضمن لغز أو ألغاز البوح، وتشكيل الغلاف ولوحته الفنية (إظهار الكتاب). فحضور  كل من “لويزا” و”مارين” اللَّتان تُؤرخُ مسرحية (حضرة البوح) على مذبحتهما في الواقع، وكذا في متخيل هذا النص الدرامي، لقد استحضر ابن زيدان لِطيْفيْهما حوارا غطى صفحة ونصف من البوح الثاني “رسالة من مرسل مجهول/ ص35و36)”.  كما يستعيدهما في البوح الثاني عشر والأخير “لنمسك قلوبنا من أجل الحياة” والذي جمع طيف الحقوقي “العريف”، الرجل الوحيد الذي تحبه “العروف” والمغيَّبْ(بالاعتقال)، وذلك من خلال تحول “العروف” إلى طيف “لويزا” تارة، ثم إلى طيف “مارين” تارة أخرى، في مشهد الذبح الرهيب/ ص114-115-116.

الاستعراض الخامس : نهاية.

“حضرة البوح”، قراءتي المتواضعة، كانت تتلمس أجوبة لوضع بَشَرِي مَنْذور بالمآسي في كل لحظة وحين.

قراءتي كانت تبحث الخوض في خفايا وخبايا المسرح الواقعي مع نوعية مستحدثة من الخيال لإحداث تغييرات وتصويبات لبعض الوضعيات الاجتماعية المربكة.

يقول ابن زيدان:مسرحية “حضرة البوح” … أبجديتها قادرة على تبليغ خطابات مسرح ينخرط بمسؤولية في محاولة فهم وتفسير عالم يزعزعه الإرهاب”.

نعم، هي لغة كتاب متعة عند القراءة، تسبح بالقارئ نحو تيارات منسابة في الزمن الإنساني المتحول وغير الثابت. مرات عديدة يكون الخطاب باردا ودسما، وأخرى دافئا مفعما بالحياة، ومرات أخرى حلوا بالفرح والأمل، و غير ما مرة مستفزا بملوحة الفزع، والألم والخوف من المتحولات الاجتماعية الوافدة بالنكسة.

 

 

مقالات مشابهة