بقلم عادل بن الحبيب
تعد قرينة البراءة من المبادئ الأساسية التي تكرسها القوانين الوطنية والمواثيق الدولية، وهي الضمانة التي تجعل كل شخص يفترض فيه البراءة إلى أن تثبت إدانته بحكم نهائي. وقد نص الدستور المغربي صراحة في فصله 23 على هذا المبدأ، كما أكدته مقتضيات قانون المسطرة الجنائية والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان. غير أن هذا المبدأ يتعرض اليوم لتهديد حقيقي نتيجة تنامي ظاهرة تناول القضايا الجارية أمام المحاكم في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.
ففي السنوات الأخيرة، أصبحنا نشهد تداولا واسع لتفاصيل دقيقة عن ملفات ما زالت في طور التحقيق أو المحاكمة، حيث تنشر المعطيات الخاصة بالأطراف، أحيانا مصحوبة بأسمائهم أو صورهم، ويتم الحديث عنهم بلغة الإدانة لا بلغة الحياد، وكأن الحكم القضائي قد صدر فعلا. هذا الوضع يفرغ قرينة البراءة من مضمونها ويحول وسائل الإعلام من أدوات للإخبار والتنوير إلى أدوات لمحاكمة الأشخاص خارج أسوار العدالة.
مثل هذه الممارسات تشكل تهديدا مزدوجا، فهي من جهة تمس بشكل مباشر بحقوق الأفراد وتؤثر على حياتهم وسمعتهم، ومن جهة أخرى تقوض استقلالية القضاء ومصداقية مؤسساته. فحين يتعرض القاضي لضغط إعلامي أو عندما يشوش على الرأي العام من خلال معطيات ناقصة أو غير دقيقة، يصبح من الصعب ضمان محاكمة عادلة تتوفر فيها كل شروط التجرد والنزاهة.
بين حرية الصحافة وقرينة البراءة تقف العدالة في مفترق طرق، إذ يطرح السؤال الملح ،متى يتحول الخبر من واجب إعلامي إلى أداة انتهاك؟ فالصحافة، باعتبارها سلطة رابعة، لها دور أساسي في تنوير الرأي العام ومواكبة القضايا ذات البعد الاجتماعي والحقوقي، لكن هذا الدور لا يجب أن يتحول إلى منصة لمحاكمة الأفراد خارج الإطار القضائي. عندما تنشر تفاصيل دقيقة عن نازلة لا تزال رهن التحقيق، أو يصور المتهم على أنه مدان، فإننا لا نكون أمام ممارسة لحرية التعبير، بل أمام مساس خطير بحقوق الأفراد، وخرق لمبدأ أساسي من مبادئ العدالة وهو قرينة البراءة.
الفقه القانوني المغربي، ومعه الاجتهاد القضائي، يجمع على أن حرية التعبير لا يمكن أن تمارس على حساب حقوق المتقاضين. وقد أكدت محكمة النقض في عدة قرارات أن حماية الحياة الخاصة وكرامة الإنسان تظل قائمة حتى في ظل ملاحقة جنائية، وأن كل نشر ينطوي على تشهير أو مساس بالكرامة يُعد فعلا مخالفاً للقانون، حتى وإن تم تحت غطاء “حق الإخبار”.
من هنا، يتبين أن الحد الفاصل بين الخبر والانتهاك يتحدد بمدى احترام الصحفي للضوابط المهنية والقانونية، وبقدر التزامه بمبدأ الحياد وواجب التحري. فإذا كانت حرية الصحافة ضرورية في المجتمع الديمقراطي، فإنها تصبح خطرة حين تتجاهل ضمانات العدالة وتتحول إلى أداة إدانة لا إلى وسيلة إخبار مسؤولة.
ولا يقتصر تهديد قرينة البراءة على الصحافة التقليدية فقط، بل تعاظم الخطر أكثر مع تصاعد تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت منصات لمحاكمات موازية خارج الإطار القانوني. هذا التسرع في إصدار الأحكام الجماعية على المنصات الرقمية لا ينتهك فقط قرينة البراءة، بل يعرض المتقاضين وأسرهم لحملات تشهير وتشويه قد يصعب محو آثارها.
إن احترام قرينة البراءة ليس فقط واجبا قانوني، بل هو أحد أعمدة دولة الحق والقانون، ولا يمكن الحديث عن عدالة نزيهة دون إعلام مسؤول يواكب القضايا في إطار المهنية والحياد، لا في منطق الإثارة والتشهير.