مسيرة درب بلا نهايات…
محسن الأكرمين.
يقال إن حياة الإنسان تمرُّ تِباعا أمام شاشة الأعين. اليوم كان مَورد الصورة الذي مَرَّ قبل أن يرتد طرف عيني، درب طويل ليس له حدود ولا حرس أمن، ولا إنارة اصطناعية. كان ذاك الدرب يحمل مُنعرجات غائرة، ويكسوه ظل شجرة يتيمة يانعة، تحمل من متنوع الفواكه ما لذ وطاب. من حسن ما صنع المشهد المخيف، استيقظت عيناي بالفزع والخوف من مستقبل غائر المعالم. حينها وجدت جبيني قد تبللت عرقا، والفصل كان باردا. وقفت على أن مجموعة من مشاهد حياتي تتكرر بالتردد، وتزين حيطان الدرب، بلا تلوين، ولا تشكيل ملهاة كوميدية. تيقنت بالسليقة أن الصورة الملونة الفريدة من حياتي تحمل ملمحي شبابا وفي أسفلها: عليك أن تسرع الخطى، عندما يتمهل الآخرون في السير!!
اليوم كانت نيتي بسلك الطريق المغاير، وملازمة قراءة علامات التشوير بتأن (انتبه !!قف !! )، وسيكون أول يوم من حياتي أقتحم فيه المجهولات والمسكوتات. فقد كان من طبعي أن أرتب نفسي لأي مغامرة غير محسوبة المداخل والمخارج. قلت بالاستضمار الذاتي: أنا آسف…يا أنا… !! كنت أرددها مثل (الكورال) الذي لا يحفظ إلا تلك اللازمة بالتردد طيلة أداء الأغنية والرقص. لم أدر عمَّا أنا آسف عنه بالسبق!! ولا حتى سبب مُشاهدة البعض من مسارات حياتي الباقية عند ارتداد جفوني عنوة.
في متوسط الدرب الطويل الضيق، وبلا نهايات محدودة في الأفق، ضَعُف نظري في تحديد الأبعاد، وكنت قد قطعت وعدا بعدم الاستسلام مهما كانت حدة النتائج سلبا. كنت أستعمل حواسي الأربعة ككفايات حياة متمرسة على معالجة شدة وضعيات المواقف، وقد ضاعفت من حاسة سمعي تعبئة. رباه، رباه !! إني أرى أبي في طيبة يوم الجمعة، وهو متوجه لمسجد سيدي امبارك لأداء صلاة الجماعة… رباه، رباه !! أبي لم يعر ندائي اهتماما حين خرج الصوت من حلقي صياحا (وَا بَا…وَا بَا…)، انتظرني… كان ألمي يزداد وقوفا، وبدون حركة إشارة تلوح بالسمع والتوقف. لم ينتبه لكلماتي ونظراتي، ولم يعر شوقي له توقفا. بكيت ألما وأنا أردد: أبي منذ عشرين سنة، لم أسمع صوتك، منذ رحيلك الأول عن منزل الأسرة، أداوم على زيارتك، فما الأمر؟
لم أقنطت من معاودة الكرة مرة ثانية، فسلكت الطريق المنعرج بحاسة شم بخور جلباب أبي المتوهج. لكن، حين تبدد الشم نكوصا، أحسست أن بوصلة الاتجاهات ضاعت مني، فتهت عند رأس الطريق، ولم أعد أقدر على التمييز بين متاريس الدرب الجانبية، وبين المسار المفضي إلى باحة الحياة الباقية.
كان هذا الضوء الآتي من متم نهاية نفق الدرب الضيق، يشدني لكي أتمم مهمة الوصول إلى المجهول. فقد كان من الحمق أن يأتيني صوت العقل وأنا ألاعب أحاسيسي الوجودية الصغيرة، ومن العقل أن يُرْمِيني الواقع بشهب نارية حارقة وهو يقول: “علينك أن تُعيد الاعتبار للبداهة، يجب أن تطبق العدالة مع ذاتك، قبل أن تجدك العدالة الربانية، فالعدالة تبدو عمياء، ولا يمكن أن تسمع صوتها إلا باحترامك للذات والآخرين، فقد أصبح السجن اليوم هو الحرية، وفي خارجه يمارس الاستبداد، ويقيد الألسن والكرامة الإنسانية…”.
حقيقة مطلقة، حين يشتد تلاطم الأفكار بين ارتباك الحقيقة الوهمية، والمزيف من الواقع، بالإضافة إلى نزغ من شيطان الذكاء الاصطناعي، عندها أفتقد جزء من إيماني الداخلي بصوت الحق العادل، فأبدو تائها في مسيرة الدرب وبقرف مميت، وأنا أمارس حوار الطرشان مع الذات العليلة.
من البديهيات الفلسفية في ذاك الدرب المنغلق بالمنعرجات، أن الحرية والعدالة والعقل والحمق والتنوير والحداثة (البعدية) حق مشروع في فهم مَكْنُون (مستور) الحياة، لكني في نهاية الدرب تَصلَّفَ (تكبر) تفكيري عن فهم معادلة الفرق بين الوهم والمتخيل، والحقيقة الواقعية المتغوِّلة. مشهد الوالد في نهاية شعاع الدرب المنير، لم يأت من فراغ ولا من حياد المعالجة الفورية واللصيقة بحياتي، فهو رحمه الله كان سندي في إخراجي من متاهات حياتية كادت قاب قوسين أن توقع بي أرضا. في نهاية الدرب، لم أر وجهه الوضاء، وإنما كانت لي فرصة من تقبيل يده اليمنى المتشبعة من تراب أرض الأجداد. (يتبع)