بلادي نيوز: عمر أعكيريش
لا تزال صورة والدي رحمة الله عليه عالقة بذهني، ولن يمحوها الزمن من حقيبة خيالي ما حييت، تلك الصورة التي يأمر فيها والدتي أسكنها الله فسيح جناته، إعداد لوازم الحمام، كانت علاقة والدي بالحمام الشعبي الساخن علاقة حميمية، في الوقت الذي كنت أمقت يوم زيارة أبي الأسبوعية للحمام، حيث كان يجرني لسلخ جلدي وسط حرارة جهنمية خاصة مع حمام قديم كان يعتمد أصحابه في تسخين مياهه وأجواءه بالحطب..
كان عليه رحمة الله، عند دخوله، يطلي لحمي بالصابون البلدي، ويأمرني أن أستلقي في بيت الحجيم، أمام ” البرمة” لساعة أو ما يزيد عليها، حتى ” يرطب الوسخ” على حد تعبيره، يأمرني بعدها بفرك جلدي بقطعة قماش شديدة الخشونة، أمررها على أطراف جسمي، ساحبة وراءها أكوام من بقايا وسخ علق بجلدي، بعدها وبدون مراعاة لنقص الأكسجين الذي بات يتقلص بين جوانبي، وبدأت قواي تنهار، يجلس أمامي، آمرا إياي بحك ظهره، حاثا باستمرار على الضغط بقوة أكبر، واصفا صلابة ساعدي الذي كل وتعب بسواعد البنات..
بعد ذلك يأمرني بالاستلقاء، ليمرر الكيس على جسدي المنهك، كمحاولة أخيرة منه إن علقت بقايا جلد ميت، ليبدأ في ممارسة هوايته المفضلة ” التكسال” وهي رياضة تكسير عظامي، وثني أطراف رجلي ومفاصلي إلى حدود السحق.. يتركني بعدها وقد أوشكت على الإغماء، يصب فوقي سطل أو اثنين من الماء الساخن، أقوم لأتوارى عن أنظاره صوب القاعة الموالية وأعمد على صب الماء البارد على جسمي الملتهب المنهك..
كان في كل مرة وأنا غائب عن أنظاره يناديني، تارة لملأ الأسطل بالماء، وتارة لفرك ظهره بالصابون، وهي من الأشياء التي كنت أعشقها، لأنها كانت توحي لي آنذاك أن عذاب الحمام أوشك على الانتهاء..
كانت لحظة الخروج لبهو الحمام، وشرب كأس الشاي، أو تناول برتقالة واستنشاق الهواء الرطب النقي والتقاط الأنفس، من أجمل اللحظات وأسعدها، ” بالصحة والراحة الحاج” تأتي من عمق البهو، في رسالة لوالدي من أحد أصدقاءه، يرد بدون أن يلتفت إليه ” الله يعطيك الصحة” ” الحمام سخون اليوم بزاف” يرد الآخر على والدي ” هي سياسة حتى لا نبقى فيه طويلا”..
حينما اشتد عودي، أقسمت أن لا أرافق والدي مرة أخرى إلى هذا الجحيم، لكن سرعان ما أدركت أن صحته لم تعد تحتمل الذهاب لوحده، فبدأت أرافقه في محاولة مني للعب دور الابن الكبير الذي يعول عليه في كل صغيرة وكبيرة، ولو أن عملية ” التكسال” التي يحبها والدي كانت تعوزني..
لكم تمنيت أن تعود تلك الأيام الجميلة، أصبر فيها لجحيم الحمام، وأستحمل ” تكسيلة” والدي رحمه الله ولو كسر ضلوعي..