بلادي نيوز: الضاوية دنان
من منطقة تراست عمالة انزكان ايت ملول، همت” أمي عايشة” بمغادرة منزلها عند حدود الساعة الرابعة صباحا، متأبطة حقيبة فقدت لونها البني بفعل تقادمها، حشتها بخبز وعلبة بلاستيكية بها مرق أعدته ليلة البارحة، لتعيد تسخينه كوجبة غذاء، بجانبها، أوقفت بعناية إبريقا يحفظ حرارة الشاي بداخله، وقارورة ماء، بعد أداء ” أمي عايشة” لصلاتها المفروضة، نطق لسانها بالبسملة والهيللة، توكلت على الله وغادرت محلها..
أحكمت إغلاق باب منزلها المشترك مع الجيران، وبخطى سريعة قطعت الردهة المظلمة، وانعطفت يمينا، استقبلها ضوء الشارع الخافت، كان فارغا إلا من شخوص بدأت تلفظها الأزقة الفرعية، بعضها اقتعد أرضية بجانب المقهى التي لا زالت أبوابها موصدة، في حين ظلت أخرى واقفة، شخوص بدأت تظهر ملامحها وتتبدى، هن نساء مثيلات ” أمي عايشة” سعين لالتقاط رزقهن في ذلك الصباح الباكر، ينتظرن قدوم وسيلة نقلهن صوب محطة التلفيف بمنطقة انشادن باقليم اشتوكة ايت باها..
سرعان ما لاحت من بعيد أضواء كاشفة لسيارة لنقل السلع ” بيكوب” وقفت حيث النساء اتخذن نقطة التقائهن، تسارعت الأجساد بخفة لامتطاء السيارة، في حين ظلت ” أمي عايشة’ بحكم سنها المتقدم تتابع المشهد إلى حين اكتماله، لتكون آخر من يحشر جسده بين الأخريات.. معظم النساء – ومنهن حتى الفتيات- على غرار ” أمي عايشة” ينحدرن من بيئات اقتصادية متواضعة، منهن المتزوجات والعازبات، المطلقات والأرامل، قد تجد بينهن من راكمت رصيدا معرفيا بفضل ولوجها المدرسة العمومية، ومنهن من لم تطأ عتبة المدرسة يوما، بعضهن يشتركن في كونهن المعيل لأسرهن، ومنهن من يتقاسمن المسؤولية مع بعض أفرادها.
تعيش ” أمي عايشة” ظروف عمل قاسية، بدون أية حماية قانونية تحفظ كرامتها وإنسانيتها، بدءا بوسيلة النقل التي التصقت فيها الأجساد بشكل غير آدمي، إلى الساعات الطوال من العمل، قد تصل إلى 12 ساعة، مع نصف ساعة فقط استراحة لتناول وجبة الغذاء، إلى عدم التصريح بالساعات الإضافية لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وصولا إلى كل أشكال وألوان العنف اللفظي والجسدي، وأحيانا التحرش الجنسي من قبل بعض المشرفين، تضطر بعض العاملات إلى الاستجابة لنزواتهم مكرهات لتجنب الاستغناء عنهن وطردهن من العمل..
هي مقدمة لتفاصيل معاناة العاملات بمعامل التلفيف باشتوكة ايت باها، سنتطرق إليها بالتفصيل الممل من خلال استطلاع مفصل، يهم كل ما يلامس هذا الجانب من إكراهات، سنغوص في لجج مشاكل الضيعات الفلاحية الصغيرة والمتوسطة والشركات الكبرى، من خلال عنوان عريض وبارز “ماذا تستفيد الدولة من هذه الشركات، خاصة العالمية منها؟؟ سنحاول سبر غور تلك العلاقة الملغومة بين العمال ورب العمل، سنتطرق إلى ما يروج داخل الضيعات ومصانع التلفيف من حيف وجور يطال الحلقة الأضعف في هذه المنظومة ” العامل” من خلال شهادات حية، لعمال وعاملات طردوا تعسفيا، خاصة من يتجرأ ويتطاول على ” أسياده” بالانتماء النقابي، ولدينا شهادات حية تحكي مآسي في هذا الباب، نورد إحداها على سبيل الاستئناس.. شركة عمدت على طرد ثلاثة عمال لانتمائهم النقابي، ودفاعهم المستميت عن حقوق العمال والعاملات، أنصفهم مفتش الشغل، وأرغم ” الباطرون” على إرجاعهم إلى عملهم، هذا الأخير أعطى تعليماته للسائقين بعدم الوقوف لهم بالمحطات التي يتم عادة
نقلهم منها، الشيء الذي جعلهم مع تكرار العملية ومرور الأيام ينسحبون ويستسلمون للأمر الواقع، لكن حدث أن سائقا يوما ما نسي الأوامر واستقدم معه أحد المغضوب عليهم، فكان مصير السائق هو “الطرد”..
كان لا بد من أن نطلقها صيحة احتجاج مدوية على ظلم الواقع للمرأة العاملة التي تتسلح بالجلد والصبر والتضحية.. سنحاول ألا نفقد قدرتنا على الصياح والاحتجاج والاعتراض على فساد واقع ” بعض الضيعات الفلاحية ومعامل التلفيف” سنكون صوتا ل ” أمي عايشة” التي عادت بعد يوم طويل وشاق، منهكة الجسد خائرة القوى، أكلت ما يسد رمقها، وسقطت حيث هي تحاول أن تنام لترتاح لغذ سيكون شبيها ليومها.. يتبع