أقلام حرة

البحيرة (فصل من رواية” ويلات ذاكرة حالمة”) .


محسن الأكرمين.

كان إيثري يحب الجري في المساحات غير المحدودة، في الفضاءات غير المسيجة بحواجز الزمان والمكان، حين ألقي بأول رجل له جريا لاحت له ملامح أبيه من بعيد في تلك البحيرة التي تقل ماء في فصل صيف حارق. تفكيره يسرع حين تتسع خطوات الركض عنده على الأرض اندفاعيا، كان يشد رؤيته على مشهد الأب آدم الذي داوم الجري بنفس المدار والمسار، كان يشتم عرق أبيه يفوح عطرا بجوانب تلك البحيرة التي تحولت من جنة وأضحت صَعِيدًا زَلَقًا.
لم تمنعه الموسيقى المعلقة بأذنيه من تجاوز حد السرعة النهائية وانتقال مركز الثقل على القدمين بالتساوي العادل على بساط الأرض، لم تمنعه رغبته في ملامسة يد أبيه و سقطة خضوع ركعة بين يديه وبكاء مسموع. لكن كل نقط المسافة المستديرة كان تزيد من تقاسم خلايا النقط بالتكاثر وأصبح مسار الجري طولا ممتدا بلا نهاية وصول.
كان إيثري في قرار نفسه يستحضر صغره وهو يلهو بجانب البحيرة الدفيئة بالمياه والحياة الوجودية بالتنوع، كان يتابع قابلية الجري عند الأب آدم وهو يمارس رياضته المفضلة لمسافات طويلة وببضع مرات التكرار، كان يذكر تلك المراكب الخشبية التي كان يصنعها وهو صغير العمر إيمانا منه بتطبيق ما كتب عن تاريخ طارق بن زياد وخطبته البليغة ” أيها الناس! أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم، فليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب اللثام…”
في حد خط الوصول ابتعد ملمح الأب بنفس المسافة الأولى عندما ألقى برجليه للجري بين الهرولة والشد على صورته المتبقية من الماضي. تصعد صدره سماء و أحس بضيق حرج يلفه، وزاده علوا شدة توافد نفس بصهد أثر الزمان الذي لا حيلة له فيه. استمر في الركض نحو الإيمان المطلق بحقيقة الموجودات دون أن يعلم متى التوقف عن مجاراة أول نقطة حملت ملمح الأب آدم.
في ظل تكرار الطواف على البحيرة والتي تقل ماء صيفا، ودون ترديده لكلمات ألفها في حياته. أحس إيثري بقلق يسيطر عليه من الداخل ويخنق نفسه كمن يتصعد سماء، قلق يثقل جريه نحو المستقبل و يبقيه لصيقا بالبحث عن مخلفات الماضي الساكت عند بداية خطوات أبيه الأولى بالجري وخروجه من حدود تلك البحيرة. هو يذكر حق المعرفة أن البطء أمسى يسكنه في أفعاله وقراراته العلوية، هو يعلم أن الحاضر في الجري المفرط السرعة لن يوصله إلى هدف المعرفة الكلية بل ممكن أن يسكنه في العالم الأسفل والهاوية الممتدة بالمتناقضات.
إيثري يعلم حق اليقين في جريه الدائري أجوبة يقينية حول تفكير عن أسئلة وجودية إخبارية، من الباحثة عن الذات، ولما يجري باتجاه ملمح أبيه ؟، ولما لازال يسرع الخطى نحو صورة الأب في تلك البحيرة اللامنتهية ؟، تساءل كذلك ، حين ستنتهي مسارات نقط الركض أين سيتوقف؟، و بأية علامة تشوير سيتوقف ؟. حينها آثر التوقف لزوما ليسترجع أنفاس التفكير الهادئ، وينقذه من ضغط تصعد السماء المرهق. في توقفه عن الجري، تعلم إيثري آليات التفسير والتحليل، تعلم كيف يزاوج بين الأحداث والمظاهر، تيقن بعلم يقين العقل والنقل بالقوة الخارقة المتحكمة في صناعة حروف الكون.
حين استرد أنفاسه تدفقا ممكنا في تلك البحيرة القليلة الماء صيفا، حن توقف عن الجري قدما، أدرك إيثري أن الجري ما هو إلا بحث عن السلطة وحب الامتلاك وبسط يد السيطرة، تعلم أن الخرافة الهامشية أنتجت قصصا لشجرة الخلود على سلطة حماية البحيرة، خبر سراب الشيطان بتعدد رمزيته المعارضة ، تعلم أن إعادة كتابة التاريخ ما هو إلا تفكير في تغيير مجرى أحداث عالم بأكمله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة عشر + أربعة =

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار