في ظلال الاحتفال العالمي بأيام التراث، تتشرف جمعية إنقاذ المدينة والمآثر التاريخية بمدينة الأبواب الجميلة مكناس، بتجديد النداء للتذكير بأن تراث المملكة المغربية الهندسي والمعماري متعدد الصور، موصوف بغنى أنماط مآثره المنسوبة لمتعدد الحقب التاريخية الممتدة لاثني عشر قرنا، بشكليه المدني والعسكري، مرتبط بالحياة في شموليتها، رافعة لتنمية المدن، وأحد أسباب الشهرة والرواج الاقتصادي للبلاد كما هو الحال لدى الكثير من دول العالم.
ومن منطلق الاعتزاز بالهوية وصيانتها وتوظيفها، كرست الجمعية السالفة الذكر زمنا طويلا للتعريف بخصوصية نفائس التراث المغربي، والنداء المتكرر والمتجدد للحفاظ على هذا الموروث العمراني والتاريخي الذي يميز قرى ومدن المغرب، إضافة إلى تزكية ومواكبة وتشجيع كل الأنشطة التي تخدم قضية حماية وتوظيف التراث التاريخي للبلاد، من لقاءات علمية وإصدارات ثقافية وبحوث علمية، تعريفا بالحضارات التي يجسدها، وطلبا لرد الاعتبار للتراث المادي وغير المادي، وصونا وحماية للذاكرة التاريخية، كقضية ملحة تسترعي اهتمام المنتظم الدولي والحكومات والشعوب والمهنيين وجمعيات المجتمع المدني، متجاوزة النظرة التحنيطية التي سادت مراحل متقدمة من القرن العشرين، التي كان همها الوحيد والأوحد الحفاظ على قدسية معالم الماضي دون إدخال وظائف جديدة، في زمن وجب فيه مناقشة ملف التراث في انسجام تام والاتفاقية الدولية لسنة 2003 التي تروم حمايته وجعله ملكا للإنسانية، ورافدا من روافد التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بوصفه طاقة متجددة تنهل الأمم والشعوب من عطائها غير المحدود، ويميز حضارة المغرب بخصوصية فريدة عن باقي حضارات دول المعمور.
وتأسيسا على ما تقدم واعتبارا للرصيد التراثي بحمولته الثقافية والحضارية، وامتلاك المملكة لأزيد من ثلاثين مدينة عتيقة، منها ما سُجِّل ضمن لائحة التراث العالمي على سبيل المثال: مكناس سنة 1996، فاس سنة 1981، مراكش 1985، تطوان سنة 1997، ومدينة الرباط خلال 2012، إضافة إلى القصور والقصبات بالمناطق الصحراوية وشبه الصحراوية، ناهيك عن تراث طبيعي أركيولوجي نوعي ونادر، تناسلت ضمن السياق الكوني الحديث جملة من المفاهيم الجديدة، ومن خلالها تصورات جديدة يمكن فهمها في سياق التنمية التراثية التي تعبر -بمنطوقها قبل مضمونها- عن ثقافة جديدة واستراتيجية مدروسة تجعل التراث المغربي كائنا متحركا يتفاعل مع بيئته، ويقاوم النسيان والإهمال، ويؤدي مهمته الجديدة بإشعاع فكري واقتصادي متطور ومتقدم.
وجدير بالذكر أن تدبير إنقاذ المدن التاريخية وفق المبادئ والأهداف والمناهج والوسائل الواجب اعتمادها، تماشيا والاهتمام الدولي الرسمي والمؤسسات المعنية بتدبير التراث العالمي الذي لا تنحصر فقط في اليونسكو، بل يتقاسمه العديد من المنظمات الدولية الفاعلة في ميدان التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويتعلق الأمر بالصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي FADES المحدث سنة 1968 والمنطلق فعليا سنة 1974 والذي يرجع الفضل إليه في تمويل تهيئة الشبكة الهيدرولوجية الأصيلة وترميم المركب المعماري باب المكينة وأسواره بمدينة فاس، والبنك العالمي وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية PNUD، وغيره من المنظمات الدولية والإقليمية، ناهيك عن منظمات دولية غير حكومية اهتمت برد الاعتبار للتراث مع تأطيره تقنيا، ودعمه ماليا، ومده بالاستشارة لتصنيف المدن والمواقع التاريخية، وهنا نخص بالذكر المجلس العالمي للمعالم والمواقع ICOMOS، ومركز الدراسات من اجل ترميم وحماية التراث ICCROM، اللذان أسسا للمبادرات الدولية الرامية إلى رد الاعتبار للمدن وترميم المعالم التاريخية والمواقع، بتبنيهما لميثاق 1987لانقاذ المدن، والميثاق الدولي لترميم المعالم والمواقع فينيس1964 والاتفاقية الدولية لحماية التراث الثقافي والطبيعي باريس16 فبراير 1972 وكلها مواثيق يجب مراعاتها في تسطير سياسات التخطيط الحضري التي تنهجها الدول والحكومات بهدف الوصول إلى تنمية مستدامة على كافة المستويات، علما أن عمليات الإنقاذ لم تعد هدفا في حد ذاته بل الهدف هو أن تكون هذه المدن رافدا من روافد التنمية.
كما أن مقاربة المملكة لإشكالية التراث تاريخيا طبعها استمرار المقاربة الاستعمارية من 1956 إلى 1980؛ حيث كانت النخبة المغربية أمام مشاكل عويصة في مجال التخطيط الحضري المستمر طبق التوجهات والمبادئ العامة الموروثة سلفا من الحقبة الاستعمارية، مما تسبب في تعثر كبير في أدوات التخطيط الحضري التي كانت أغلب الدراسات المسبقة لها لا تأخذ بعين الاعتبار المعطيات الحقيقية لواقع الحواضر المغربية، الشيء الذي جعلها أحيانا غير قابلة للتنفيذ حتى دخول تنفيذ المخطط الخماسي 1968- 1972 بفلسفته التوجيهية التي شكلت مرجعا أساسيا لبرامج التدخلات لرد الاعتبار للمدن العتيقة، وإنشاء مديرية التراث سنة 1979 باسم “مديرية المتاحف والمواقع الأركيوليوجية والمعالم التاريخية”، وقد أوكل إليها مهمة المحافظة على التراث عبر ترميمه وحمايته، وجمع وتحيين معطياته، والسهر على تنفيذ المقتضيات القانونية والتنظيمية الخاصة بحمايته وتعريفه، زد على ذلك الميثاق الجماعي لسنة 1976 الذي سجل أول بداية للتكفل بالتراث محليا، ومنح الصفة القانونية للجماعات المحلية وفق اختصاصاتها داخل نفوذها الترابي لترتيب وتقييد الأبنية التاريخية، كما أعطى ظهير 1945 حق الشفعة للدولة المغربية للتحكم في شروط نقل ملكية المعالم، مع زجر المخالفات طبقا لقانون 80-22 في محاولة نوعية لإنتاج رؤية جديدة لإنقاذ التراث المعماري وفق حماية قانونية تليق بمكانته التاريخية.
إلا أن كل هده الإجراءات والقوانين والمؤسسات بمجهوداتها وخبرتها، تبقى موضع تساؤلات عديدة يجب الإحاطة بها لإنتاج فهم عميق لإشكاليتها، بدءاً بأي موقع للمدن الغنية بالمآثر في إطار تدبير المجال مع ربطه بالمعطى الاقتصادي بالمغرب؟ ما مدى فعالية الإجراءات الحمائية وتأثيرها في صون الهوية المعمارية والعمرانية كأداة لجلب السياحة العالمية وترويج المنتوج المغربي؟ هل استفادت المدن المصنفة تراثا عالميا من تزايد الاهتمام الدولي بالموروث التاريخي، وانخراط المنظمات الدولية، الحكومية وغير الحكومية، والهيئات المانحة في رد الاعتبار لهذا التراث تحصينا للذاكرة التراثية للمملكة؟ وانتهاءً بتحديد الفاعلين الأساسيين في هذا المجال مع تسطير رهاناتهم، وهل شكل تعددهم عامل إثراء أم عنصر عرقلة؟ أمام مبادرات الإنقاذ ورد الاعتبار التي تتسم بالمحدودية والاحتشام، وتُنذِر بكارثة حقيقية.
والعالم محتفل بأيام التراث، يتجدد نداء المجتمع المدني الذي لم يكف عن تذكير من يهمهم أمر صيانة وتوظيف المادة التراثية اجتماعيا واقتصاديا، بالعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المعالم التاريخية وفق المعايير الدولية، دون فصلها عن بيئتها، ووفق الشروط المعروفة عالميا والمسطرة من طرف هيئات مشهود بخبرتها.
وصلة بما سبق، نعود إلى جمعية إنقاذ المدينة والمآثر التاريخية بمكناس في إعلانها للرأي العام بعد يومها الدراسي في موضوع: “مدينة مكناس الاكراهات والتحديات” ليوم السبت 04/03/2023، الذي تمخض عنه عشر نقط مهمة، نقتطف منها توصية ذات الصلة، وفي غاية الأهمية، تتجسد في الدعوة إلى إعادة فتح النقاش بكل مسؤولية لتكوين رؤية توافقية مستقبلية، مدعمة من طرف الدولة، ببرنامج مدقق للتجديد الحضري لمكناس الكبرى بعنوان:
“مكناس حاضرة المستقبل MEKNES CITE DE L’AVENIR” في محاولة جريئة لتقاسم المسؤولية في إحياء التراث والتنمية الثقافية، وخلق ديناميكية فكرية ومرجعية حول سبل حماية مواقع التراث العالمي والمحافظة عليها وحسن توظيفها واستثمارها، وربطها بمسارات سياحية منظمة، بالشراكة مع الهياكل والمؤسسات والإدارات الوطنية الفاعلة، وممثلين عن المجتمع المدني على غرار الجمعيات بالجهات، تماشيا والتوجهات العامة للمملكة بخصوص حماية التراث، ومخرجات الرسالة الملكية السامية التي وجهها سلطان البلاد إلى المشاركين في الدورة 23 للجنة التراث العالمي، مؤكدا جلالته أن إدماج التراث في مشاريع التنمية مرهون بربط جسور قوية بين الموروث الحضاري والإبداع الإنساني في الزمن الحاضر، وقد ظهر جليا عدم نجاعة المقاربة الإدارية لملف رهانات وتحديات التراث بالمغرب، وتوجب التفكير في مشروع إحداث وكالة وطنية للتراث لتعبئة الموارد الكافية، حتى نتفادى الإهمال الذي طال معالم كثيرة بالمملكة نذكر منها قشلة دار السلطان بآسفي المصنفة بظهير 25 نونبر 1922، والكاتدرائية البرتغالية المصنفة بظهير 21 يناير 1924، وقصبة حميدوش المصنفة بظهير 26 اكتوبر1928، وقصبة الصويرة القديمة المصنفة بظهير 23 فبراير 1943، وقصبة ايير المصنفة بظهير 18 ماي 1953.
وهذا حتى تفهم الأجيال الحاضرة والمقبلة أن التراث هو التاريخ الذي يعيش فينا ونعيش فيه، وطاقة تتجدد مع تجديد الفهم والتصور والمناهج وأساليب التدبير والتوظيف، والصورة الحقيقية لعقلية مجتمع بقيمه ومُثله وعاداته، يروم تنمية مستدامة لحضارة إنسانية كونية.
**جمعية إنقاذ المدينة والمآثر التاريخية – مكناس- المملكة المغربية
بقلم/ الأستاذ إدريس بوسباطة**