محسن الأكرمين.
إلى أمي… رحمة الله عليك…
لازلت أذكر… وجه أمي حاضر بيننا في المنزل الكبير… وفي بحة من حلقها تنادي محسن… كانت حينها آخر كلمة تخرج من قلبها مسموعة، وهي تبكي معي مآسي قلبي الحزين بالفقد القريب… كنت حينها في موضع القرب من ندائها… قلت هاأنذا يا (الحاجة)… لكنها مارست غفوتها اللاإرادية بالمرة النهائية…
لازلت أذكر … أن الموت حطم قلبي بالفقد مرتين تباعا، و(مرمد) حياتي بالتطويح والتبعثر… كنت حينذاك أبكي (زهري) وحظي العاثر، وأحتسب أمري لله… ولم أستطع ترميم حياتي الباقية. لازلت أذكر… وجه أمي مبتسمة، تصفف شعرها المتسربل…و(مرود) الكحول لا يبعد عنها. مازلت أذكر… حين باتت فاتنة بشعرها القصير النير بعد مرضها المُعْدم…كانت بحق أمي (الحاجة) جميلة وفاتنة وفي كل الصفات تتقلد ملكة جمال الأسرة. لا زلت أجد رائحة مِسْك مِنْدِيلها الذي كان فوق هامة رأسها عند فقدها الأخير… فهو يحمل دمعة تسيل طيعة لروحها صاعدة نحو فضاء السماء. اليوم، لم أقدر أن أطوي صفحة غَدْوة، فالقدر لم يترك لي خيار أن أعيش كما أحببت حياتي… حقا، لن ينسيني الحاضر في الماضي، ولن يخفف عني الجراح المضاعف.
إلى أبي… رحمة الله عليه،
لا زالت أذكر… وجه أبي حصنا وافدا من ذكريات الساقية والحقل. لازلت أذكر… صوت أبي في مرض موته… وهو يوصيني خيرا بالعائلة، ويقول : (دِيرْنِي) في بالك، وادع لي بالرحمة، وزر قبري… ولا تناساني ما حييت يا محسن … فحين، أقف عند مرقد أبي رحمه الله، يكون خطابي بعد تلاوة ما تيسر من القران الكريم والدعاء، لا زلت يا أبي تسكن قلبي وعيوني… ورضاك يغطيني سترا وأمنا. لا زلت أذكر… رائحة تراب يد أبي الفلاح، وتلاوة حزب المغرب ببيت جدي العتيق. لا زلت أذكر… حكاياته لقصص عنترة بن شداد، وسيف ذي يزان. لا زلت أذكر… أن الإفادة من الروايات عنده رحمه الله ليست في لغة الحكي، ولا في قطع الرؤوس، والفوز بالحبيبة وعرش الملك، بل في خلق باحة تفكير ترفض عيش الاستبداد، وتبحث عن ترصيف الطريق نحو الديمقراطية العادلة بالكرامة، بين محاسبة الفساد وبناء دولة الحق والقانون، بين تجاوز القهر والحكرة وتحقيق الكرامة الاجتماعية.
إلى أمي … رحمة الله عليها،
لا زلت أذكرك … حين عَلمتنا من أميتها الأبجدية أن العلم بوابة لمسك فراشات نور سماء بالعقل والسؤال. لا زلت أذكرك … حين كنا نستظهر عليها دروس كنانيشنا التعليمية، وهي تنبهنا وتصحح لنا مقاطع يمكن أن نقف عليها سهوا أو تلاعبا مُتمردا. لا زلت أذكرك … حين اكتشفنا فيما بعد أنها كانت لا تعرف رسم الحرف والكتابة، وإنما كانت تجيد الإنصات، وميزة الاستماع لقلوبنا وعقولنا وحركاتنا. تسلتهم نبرات أصواتنا و تفكك آليات تفكيرنا الصغيرة بقلب الأم المربية.
لا زال وجهك أمي… بعد سنوات الفقد، وطنا عندنا لكل فراشات المرحة بالحياة بمقبرة سيدي عياد… فيا قلبي جرحك طال، ولو كنت أريد الإطناب قد أكمل ديوانا من الأحزان، وبكائي قد يسقي مراقد موتى العالم… فلله الأمر، وبالصبر متسع الفضل…
إلى أبي … رحمة الله عليه،
لا زلت أذكر … حين كان يمثل لنا شدة الظلم باسم “الغول” بلا تخويف ولا استكانة ولا تطاوع، بل كان يصنع فينا قوة حافز لمجابهته بالنضال والتنوير، والتحرر من شبكة عقد الانغلاق… ومن تفكير صندوق الخوف…
إلى أمي… رحمة الله عليها،
لا زلت أذكرك … حين كنت أمي تتقنين بعفوية فن التربية على القيم والأخلاق … حين عَلمتنا شرعية السؤال بلا قيود، علمتنا البدء من تملك مسالك الإنسانية وتأكيد وجود التفكير المتحرر. علمتنا أن من الحب تكون البداية والمصالحة مع الذات والآخر…
إلى أبي وأمي… ،
لا زلت أذكركما… حين علماني أن التغيير يأتي من شجاعة الثقة في حلم المستقبل. لا زلت أذكركما… حين علماني أن الهوية المتعددة حماية لوحدة الوطن. لا زلت أذكركما… حين علماني قيم تعزيز الانتماء إلى الوطن مهما قسا على ناسه، حين علماني حمل قيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار. لا زلت أذكركما… حين علماني أن الاندماج بين الثقافات والحضارات الإنسانية تربية على المواطنة وعلى القيم الكونية. فيا قلبي جرحك قد طال واستطال … فسلام لكما ليلة جمعة من صمت الفراق…